منذ حوالي ثلاثين سنة تقريباً دخلت كلمة السأم وعيي بصورة فلسفية. كانت الموضة في ذلك الحين هي كتب الوجودية الفرنسية المترجمة ، وقد انتشرت هذه الكلمة إلى درجة أن الذي لا يشعر بالسأم عليه أن يسارع ويشعر به. فالمسألة تتعلق بحقه التاريخي في الانتساب للثقافة.
علاوة على كتب سارتر وكامو كانت هناك كتب كثيرة تشير إلى السأم على أنه فضيلة فنية. هذه الكتب وغيرها كانت كما أظن ثمرة خروج أوروبا من أكبر حروبها وأشرسها. ولكن أوروبا سرعان ما أنهت تأثير الحرب عليها. فما أن دخلت فترة الستينات حتى رأت أوروبا أن في الأفق عالما تتحقق فيه كل الطموحات الإنسانية. ولكن العالم العربي زاوج، كعادته في تبني التناقضات الفكرية، زاوج بين الشعور بالسأم وبين الآمال الكبيرة ، كان صوت عبد الناصر يلعلع. ورفيق دربه أحمد سعيد ينادي في الإذاعة: أمجاد يا عرب أمجاد. الوحدة العربية كانت تتلألأ في الأفق والوحدة الأوروبية مشروع غامض لا يعرف أحد مصيره. لا أحتاج أن أقول لكم ما هي النتائج فكل من يقرأ هذا المقال يعيش النتائج. لقد انتهى كل شيء. جاء عصر السأم الطازج المنتج محلياً الذي يجب أن نعيشه لا كما نكتبه في مقالات ونؤلف به القصص والروايات. لم نعد في حاجة الى أن نحشر الكلمات المترجمة. سأم غثيان اغتراب الخ. نستطيع أن ننتج آلاف الكلمات مثل هذه.
عندما ترى كيف نركض إلى الوراء تعرف أن ما بذلناه هو محاولة جادة للخروج من خط التاريخ المتصاعد وقد خرجنا بالفعل. بدأنا بأطروحات حداثية وتحديث وتكلمنا كثيراً عن التطور والتنمية وأخيراً انتهى بنا الأمر إلى متسولين على أبواب التاريخ نقرعها ولا أحد يجيبنا ؛ لأن من يسكنون هناك ببساطة كلهم موتى. لا يستطيع أي منهم أن ينهض ويفتح الباب.
شعوب شرق آسيا قبلت الأمر الواقع ، وقبلت البقاء مع خط تصاعد التاريخ بكل آلامه ، وصارت تتصرف على أساسه.
الصين رغم أنها قوة شبه عظمى لم تلجأ إلى القوة لانتزاع حقوقها التاريخية. جلست تتربص ضعف الأعداء مع ثبات على المبادئ الأساسية. كانت أولى الثمرات تحرير هونج كونج. وتجميد أي محاولة من تايوان نحو الاستقلال الكامل ، والأهم من هذا بناء الصين القوية المنيعة. كل يوم نسمع عن مشروع اقتصادي ضخم تؤسسه الصين بمشاركة غربية تتغير به مقاييس العالم والعلاقات الدولية. أما كوريا فقد حفظت مرارتها من اليابان في ثلاجة ودخلت في السوق العالمي بكل قوة. فلم ينقص عدد المبتعثين الكوريين في أمريكا عن أربعين ألف مبتعث منذ أربعين سنة رغم كراهية الشعب الكوري لأمريكا.
هناك خطان متوازيان لا تحيد عنهما شعوب شرق آسيا. القبول بالأمر الواقع والحفاظ على المبادئ الأساسية. فالصيني ما زال صينياً والكوري ما زال كورياً. رغم كل العلاقات والانفتاح والركض وراء المصالح، لم نسمع أن الصينيين غيروا دينهم أو أن أحداً شرط عليهم ذلك. احتفظوا بكل ما يبقي على هويتهم ولكنهم لم يضيعوا الوقت في التقاتل من أجل النوافل والفروع. تحولوا إلى دول مشاريع اقتصادية لا مشاريع فكرية.
أتذكر حين أعلن رئيس وزراء سنغافورة في بداية حكمة أن سنغافورة هي بلد اقتصادي وليست بلداً أيدلوجيا ، مَنْ لديه مشروع اقتصادي سنرحب به ومن لديه أفكار أيدلوجية فليبقَ بعيداً. والآن رغم أن سنغافورة لا تتعدى مساحتها مساحة مدينة الرياض فان اقتصادها يوازي اقتصاد الدول العربية مجتمعة.
لم نسمع أن مؤتمر قمة عربية خصص لمناقشة مشاريع اقتصادية. لم نسمع أن أي دولتين عربيتين أقامتا مشاريع اقتصادية كبرى مشتركة. هناك مئات من الكتاب الأيدلوجيين (الجابري الطرابشي البنا سرور،...) يبيعوننا كلاما منذ قرن من الزمان: هذا مشروع حداثي وهذا مشروع إسلامي وهذا مشروع تنويري. وأمام هذا الكم الهائل من المثقفين الأيدلوجيين لا نعرف مهندساً عربياً واحداً طرح مشروعاً اقتصادياً. كلمة مشروع صارت في الثقافة العربية تعني أيدلوجيا. لا ننتج سوى كلمات يمكن أن نختصرها في كلمة واحدة هي (سأم).
فاكس:4702164
|