* بالرغم من تيار العولمة الثقافية العاتي والكاسح (وتأثيره فقط على من لا ثقافة له ولا هوية) إلا أن الخصوصية الاجتماعية والثقافية للشعوب بقيت وستظل حية في أعماق وضمائر اصحابها تسيطر على أفكارهم وسلوكهم وذلك لأن المرجعية الفكرية والتشريعية والسلوكية العامة للمدير الشرقي والمسلم العربي مصدرها هو كتاب الله (القرآن الكريم) والذي استقى من نبعه كل مدير مسلم منذ نعومة أظفاره وأصبحت تعاليم هذا الدستور تجري في دمائه كعقيدة وتراث والتي لن يستطيع أي مدير مسلم أن يعزلها عن سلوكه الإداري إلا إذا باع عقيدته أو زوَّر هويته، وأما بالنسبة للمدير الغربي فعلى العكس من ذلك فقد نشأ في بيئة إدارية مادية لا تتعاطى مع الغيبيات ولا تعترف بالقدر ودوره بالنجاح أو الفشل الإداري، وهنا يكمن جوهر الخلاف الاستراتيجي بين الشرق والغرب فالإدارة والنجاح والثروة والعمل بالنسبة للشرقي المسلم هي وسيلة وعبادة أما بالنسبة للغربي فهي غاية تبررها كل الوسائل.
* ولا أسعى من هذا البحث إلى النقد أو التقييم أو الحكم ولكن أهدف من هذا المقال إلى أولاً التأكيد على وجود وأهمية الخصوصية الإدارية العربية وذلك على ضوء تلخيص وتركيز الضوء على تجربة إدارية صناعية عربية رائدة تصلح لأن تكون قدوة يحتذى بها خاصة للجيل القادم، وثانياً فإني أهدف من هذا العمل ومن طرح هذه التجربة إلى دعوة وحث المعنيين في علوم الإدارة من أكاديميين ومؤلفين ودور النشر لأن يستنبطوا من هذه التجربة أسس ومبادىء إدارية عربية عليا نحن في اشد الحاجة إليها نظراً لغيابها من مكتباتنا حتى ندرسها في معاهدنا وجامعاتنا العربية بدلاً من تدريس أبنائنا وطلابنا ومديرينا مؤلفات تيلور وما يتبعه من فلاسفة الإدارة الغربية المادية والتي لا تتناسب مع الهوية والخصوصية الشرقية والعربية والإسلامية، آملاً أن تحول هذه المبادرة إلى خطة عمل، مؤكداً في الوقت ذاته على ضرورة الانفتاح والاستفادة من انجازات المدير الغربي العلمية والتقنية، ولكن دون أن يكون الثمن هو.. الخصوصية والهوية.
التجربة والنموذج
* في السبعينات وحينما كان الجميع يراهنون على فشل الصناعة في المملكة وكان معظم المستثمرين يتهربون من الاستثمار الصناعي وكانوا يمتطون الجياد الاستثمارية العقارية والتجارية (الأسهل والأعلى ربحية)، في هذا الوقت انبرى فارس من فرسان بلدي (وهي شركة حمد عبدالله الزامل وإخوانه) ليمتطي صهوة الجواد الصناعي وليصبح بعد ثلاثة عقود من أبرز الصناعيين العرب والذي ساهم بانجازاته في وضع رجل الأعمال العربي على الخارطة الاقتصادية العالمية واصبح اسمه مرادفاً للجودة وللنجاح الإداري والصناعي والعلمي، بدون أدنى شك لم يكن الطريق بين الأمس واليوم سهلاً وبدون أدنى شك فقد كان لديه فكر ورؤية وإيمان وتوكل وعمل وسهر ومعاناة، وبحكم عملي وقربي من أصحاب القرار فسألخص فيما يلي قراءاتي لأهم اسس ومرتكزات نجاح فارس الإدارة والصناعة العربي:
المرتكزات الأساسية للإدارة العربية المستوحاة من التجربة العملية:
البنية التحتية والقواعد الأساسية التي قام عليها هذا الصرح الصناعي، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة محاور أساسية:
أولاً: تهيئة البيئة الأسرية:
* وهذه تعتبر من أهم المبادىء والأسس التي شكلت القواعد الأساسية والتي مكنت هذا الفارس من بناء صرحه الصناعي والاقتصادي والذي تعدت شهرته وسمعته ونجاحاته الحدود الوطنية والإقليمية وتمثلت هذه المبادىء في الآليات التالية:
1-1 الرؤيا الاستراتيجية وحسن قراءة المستقبل وتحليل المتغيرات الاقتصادية المستقبلية والاستعداد الفكري والعملي لتحدياتها القادمة.
1-2 ترسيخ مفهوم الثقافة الإدارية العائلية والعربية الأصيلة من خلال وضع استراتيجيات وخطط لمواجهة اخطر الفيروسات الإدارية التي سببت فشل العديد من الشركات وخاصة العائلية وهذا الفيروس هو الأنانية والفردية، ووضع خطط وقوانين تؤكد على التضامن والعمل الجماعي ووحدة الهدف والثقة ليتلزم بها جميع الشركاء أو الورثة في الشركة (شركة توصية بسيطة).
1-3 كذلك قامت الشركة باستخدام مضادات حيوية إدارية لمنع وباء خطير يهدد معظم الشركات العائلية وهو الخلط بين الشركة والشركاء وذلك من خلال تطبيق مبدأ فصل الملكية عن الإدارة، فالشركة لها كيانها وأهدافها وذمتها وماليتها وهذه تم فصلها تماماً عن شخصية وذمة وأهداف المالك أو الملاك وتم وضع مجالس ووحدات ومعايير للإدارة.
أما الرسالة والعبرة هنا فهي أنه لا خير في نجاح أو مال.. إذا ما كان ثمنه ضياع الأسرة وتفككها العائلي!!
ثانياً: تطبيق مفاهيم الإدارة العلمية من خلال:
2-1 اتباع مبدأ التخصص في التصنيع والتنويع في الأنشطة الصناعية والاعتماد على سياسة النفس الطويل وعلى سياسة المراحل وعلى الموازنة بين الطموح والأهداف وبين الموارد والإمكانيات.
2-2 الاعتماد على الأنظمة والسياسات كمبدأ إداري وأسلوب عمل بدلاً من الاعتماد على الأفراد، فالفرد (المدير أو الموظف) مهما بلغت بطولاته فهو غير دائم للأبد، أما الأنظمة والسياسات فهي الأبقى.
2-3 الاستعانة بالمستشارين والخبراء وحسن اختيار الكوادر البشرية.
2-4 التخطيط الشامل للتسويق الفعال داخلياً وخارجيا.
2-5 اعتبار الشركة العائلية (التوصية البسيطة) كحاضنة وحافظة استثمارية ومن خلالها يتم التوسع والانتشار وتفريخ شركات مستقلة.
2-6 اتباع مبدأ المشاركات والتحالفات لنقل التقنية والاستفادة من خبرات من سبقوهم من الشركات الأجنبية.
2-7 تحويل بعض الشركات إلى شركات مساهمة من خلال توسيع قاعدة الملكية والاستفادة من دعم وخبرات الملاك الجدد مع الاحتفاظ بالحصة اللازمة للرقابة والإدارة.
2-8 الثقة التامة والصدق في التعامل مع المواظفين والعملاء والموردين والشركاء ومحاربة الفساد الإداري والغش التجاري بكافة اشكاله كان لها الأثر الكبير في تطوير علاقات إيجابية طويلة المدى مع هذه الأطراف.
2-9 المساهمة الفاعلة في القضايا الخيرية الاجتماعية العامة والخاصة وتمثل ذلك في إنشاء ودعم العديد من المنظمات الاقتصادية الإسلامية والعربية، وأما على المجال الوطني فقد كانت شركة حمد عبدالله الزامل وإخوانه من أوائل الشركات التي نجحت في برامج التوطين وذلك من خلال عقد النية على إنجاح خطط السعودة وتوفير خطة وتخصيص إدارة وتوفير موازنة وتعديل بعض السياسات لتتناسب مع طبيعة وخصوصية المتدربين السعوديين وعلى سبيل المثال اعتبار يوم الخميس عطلة وتخصيص صندوق لإقراض ودعم المتدربين، وبصدق فإن برنامج التوطين الذي أعدته الشركة يصلح لأن يكون مثالاً جيدا لباقي الشركات الراغبة في تحقيق هذا الهدف كذلك أنشأت الشركة صندوقا خيريا لمساعدة الطلبة السعوديين غير القادرين على تكملة دراستهم الفنية أو الأكاديمية.
والعبر هنا عديدة وكثيرة، وجميعها تؤكد على أن الإدارة العلمية دعا إليها ديننا الحنيف قبل أن تولد الحضارة الغربية بمئات السنين {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وجوهر الإدارة العلمية والنوعية الشاملة التي طبقتها الشركة يتلخص في التكامل والانسجام بين القول والعمل وبين النظرية والتطبيق وبين المبادىء والسلوك {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.صدق الله العظيم.
ثالثاً: ترسيخ المبادىء الاستراتيجية في السلوك والتعامل (منظومة الإيمان والتوكل) وفي اعتقادي فقد كان لمنظومة التوكل والمدعم بالعمل الجاد أكبر الأثر في نجاح الشركة وكان التعبير العملي لهذا المبدأ هو مخافة الله سواء كان ذلك في مراحل التخطيط أو مراحل التنفيذ، وسواء كان ذلك بالسر أو بالعلن.
3-1 مخافة الله جعلتهم من أشد الناس تواضعاً ولم يسمحوا للقوة التي وصلوا إليها بأن تجعلهم يتكبرون أو يتجبرون أو يظلمون أو يتعالون.
3-2 مخافة الله جعلتهم في الصفوف الأولى من المصلين بجانب عمالهم وموظفيهم.
3-3 مخافة الله جعلتهم يقطعون أي اجتماع مع كبرى الشركات أو أكبر الشخصيات عند كل أذان.
3-4 مخافة الله جعلتهم يدرسون ويدرسون أبناءهم الورثة ليكونوا قدوة في سلوكهم وعمهلم وتواضعهم.
3-5 مخافة الله جعلتهم يضعون أولويات الحياة والعمل والصواب والخطأ والحلال والحرام في نصابه وميزانه الصحيح.
3-6 مخافة الله وثقة المتعاملين معهم جعلت المستثمرين يتسابقون على الاكتتاب في أي مشروع تطرحه هذه الشركة أو تساهم فيه.. إنها ثقة لا تقدر بالملايين!
3-7 باختصار لقد أقاموا الكتاب (القرآن الكريم) في منازلهم وفي عملهم.. {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.صدق الله العظيم.
وعبرة هذا المحور هامة وخطيرة وهي أن أكبر واعظم مورد للتاجر هو الثقة وهذا ما بدأت الإدارة الغربية الحديثة تؤكد عليه بعد أن فقدت مصداقيتها لدى المساهمين والمتعاملين وتداخلت لديهم معايير الصواب والخطأ.
تلك كانت التجربة وما تخللها بين الأمس واليوم من مرتكزات ومبادىء وعبر ونجاحات ولكن ماذا عن الغد لهذه الشركة او لغيرها من الشركات العائلية الرائدة؟ وكيف ستحمي هذه الشركات غدا نجاحات اليوم التي حققها الآباء..!!
أن تحديات المستقبل لهذه الشركة (النموذج) عديدة وكبيرة وشاقة وتتطلب ثقافة إدارية صلبة واستراتيجيات استثمارية مرنة تمكنها من العمل في ظروف اقتصادية محلية تنافسية شديدة وفي ظل قيادات عائلية شبابية وجديدة، وكذلك فإن التحدي الكبير الآخر الذي ستواجهه الشركة يتعلق بحجم الالتزامات التي فرضت عليها بحكم حجمها وبكونها اصبحت شركة عالمية كبرى وتعمل في ظروف اقتصادية وسياسية عالمية شديدة التقلب.
(*)مستشار التنظيم والتسويق بدار الدراسات الاقتصادية |