إن ما يبدو على السطح أحياناً أو ينطبع في الذهن ابتداء لرؤية بعض الأشياء والمواقف لا يعكس بالضرورة حقائقها وصحة مدلولاتها البدهية، وإذا كان الخلل يرد في نقل الصورة الحقيقية للأحداث فكيف بمن يتناقلون الصورة الظاهرية لها.. وطغيان الصورة الظاهرية على الحقائق الواقعية يعكس خللاً في الاتزان الاجتماعي.
.. إن الصورة الذهنية لدينا عن امرأة تخرج متكشفة أو شبه عارية أنها (امرأة ساقطة).. أليس كذلك؟ لكن.. وما يدريك أنها خرجت من حريق هائل داخل بيتها لم تستطع لهول الواقعة أن تضع على جسدها لباس حشمتها؟!.. والصورة الذهنية لشخص يقود السيارة بسرعة مفرطة أنه شخص أهوج لم يترب!.. وما يدريك أنه يحمل في سيارته شخصاً يلفظ أنفاسه الأخيرة لحادث وقع له؟!.. والصورة الذهنية المبدئية لشخص في مجلس لا يتحدث إلا قليلاً أنه شخص أبله بليد!. وما يدريك أنه يحمل موسوعة علمية عقلية لكنه لم يشأ أن يكون ثرثار الحدث؟!. وآخر (بالصورة) يستلم المجلس من أوله إلى آخره فيبدأ الحديث منه وينتهي إليه ويسير المشهد الاجتماعي هكذا.. دونما بطل للقصة يمزق الصورة ويظهر للناس الحقيقة!.
.. والصورة الذهنية (لدينا) لبنت تقود سيارة بشهادة الشهود أنها جريمة!! (امرأة وتقود السيارة.. أعوذ بالله).. وما يدريك أن السيارة قد تدحرجت بها لأن سائقها قد تركها مفتوحة ولم يؤمنها؟ أو قل إنها هربت من موقع جريمة.. وهكذا نطلق أحكامنا بلا روية ولا اتزان ولا جهد للوصول للموضوعية والمصداقية.
.. إن اكتفاء الناس بالاحتكام إلى الصور الذهنية البسيطة يعكس خللاً في تحريك القدرة العقلية للوصول للحقائق من خلف الصور، فليس كل من شاهد والداً يؤنِّب ابنه وبقسوة يصح حكمه على الوالد بأنه قاس! لأنه لا يعلم أن الوالد قد أتعب نفسه بالمناصحة ولمرات عديدة؟. ومن هنا فالعقل المتزن هو من يستطيع استجماع الأشياء ليربطها بحكمة وذكاء ليصل لا إلى الصورة التي شاهدها لكن إلى حقيقتها. والقاعدة النفيسة تقول (إن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها) وهنا لا يجب استصدار حكم ولا اتهام إنسان أو حدث حتى تكتمل صورة القضية كلها.
.. المشكلة أن بعض عقلياتنا تريد ان تقف عند النتائج لسهولة الحكم دون الحاجة إلى التأمل والتفكير! وفي ذلك تعطيل لملكة الإبداع الذهني.. ذلك أنه من المؤكد أن لكل نتيجة أسباباً أو ظروفاً محيطة انتجت هذا السلوك. فالحكم على من فقأ عين أحد الناس بأنه مجرم أو مخطئ يحتاج إلى معرفة الظرف والسبب فلربما أن الآخر قد فقئت عيناه الاثنتان!.
.. ومن المشكلات التي أظن أنها عمقت من غلبة الصورة على الحقيقة في مجتمعنا أننا نعشق الإنس والراحة ولا نريد أن نشغل عقولنا بالعملية لأن العقل العملي منتج والإنتاج ليس قدرنا, إنما قدرنا الاستهلاك!
ولذلك فالاكتفاء بمظاهر الأشياء يغنينا ويريح عقولنا من التعب والنصب. وبالتالي فنحن نعشق الصورة لا الحقيقة.
.. وللعملية التربوية الأُسرية والاجتماعية أثر بالغ في غلبة الصورة على الحقيقة لدينا.. فنحن نربي أبناءنا على الطاعة المطلقة.. فارتسمت في مخيلتهم حقيقة الانصياع الأوتوماتيكي للأوامر والمظاهر دون حاجة إلى التحقق منها!! كم من الآباء يمكن ان يقول (أبنائي: أين تريدوننا ان نذهب الليلة، أو إلى أي مكان تريدون السفر؟).. انهم أحياناً يركبون السيارة ولا يدرون إلى أين هم (يولون).. لم لا نترك لهم الحق في الاستفهام والتساؤل.. بل ليقولوا (لا) بحق.. لا ان يقولوها غداً (بغير حق). إنه تساؤل بريء (هل نربي للعصيان)!.. هل نستغل آداب شرعنا لمصالحنا لا لصلاحنا!.
.. إنها حقائق كثيرة واحداث مثيرة تجدها واقعة على أصعد مختلفة في المؤسسات الخاصة والعامة، في الحياة الشخصية والاجتماعية.. نبتعد عن المكاشفة والمصارحة.. نخفي أحياناً ما يكون لصالح الغير ونظهر دائماً ما يكون في صالحنا!!. وكل ذلك يؤسس لمجتمع الصورة لا الحقيقة.. بل يعمق لرفض الحقيقة ذلك ان حُجُباً من الصور تجذْرت في عقلياتنا ونفسياتنا الاجتماعية ما يحتاج إلى جهود كبيرة من العقلاء والنيرين والمسئولين الصادقين لمعالجتها لنعيش سوياً حقائق الأشياء لا مظاهرها فقط.
.. إن المعايشة الشورية والتربية البرهانية والإشعار واستشعار المسئولية وعدم العجلة، والروية.. كلها سلوكيات شخصية واجتماعية نحتاج إلى أن نتمثلها لفظاً ومعنى في واقعنا لنسد بها ومن خلالها منافذ الأوهام.. وتلك توجيهات حضارية وشرعية في آن واحد.
|