وبعد تجاوزالتعريف والمفهوم والحواضن والمحفزات نلتمس الحديث عن (الانتماء) الذي تدفعه كل طائفة عن نفسها، وتدفع به إلى غيرها، وإن كنا قد ألمحنا إلى أطراف من جدلية الانتماء في مجمل سياقات المفاهيم والأسباب، أو قل إن بعض الأسباب تحيل إلى الانتماء، لترابط ذلك كله ببعضه وما الفصل بينهما إلا كما الخطوط الوهمية، ودوَّامة الانتماء لا تختلف عن دوامة المفاهيم والأسباب.
وما من حزب أو نحلة أو كيان إلا ويدفع عن سمعته معرة الاتهام، وإذ يكون من حق كل بريء أن يدفع عن نفسه نسبة الإرهاب إلى مؤسساته أو مبادئه فإن الدفع لايقتضي الاتهام، ما لم تقم الحجة بالبراهين والشهود. والحق أنه ليس للتطرف والغلو والإرهاب انتماء، وإن اتسمت بعض الطوائف بشيء من ذلك، وليس من العدل القطع بانتماء الإرهاب لدين من الأديان، ولا لعرق من الأعراق، ولا لعصر من العصور، بل ولا لحضارة من الحضارات. والإرهاب في حقيقته عرض لمرض، فمتى نزل بساحة قوم في أي بقعة من الأرض فإنما هناك خلل يعرفه قوم، ثم ينكرونه، أويمارسونه ويصفونه بحق الدفاع عن النفس المعتدية، ويجهله آخرون، ثم يضربون في بنيات الطريق، بحثاً عن مصادره. فالعالم إزاءه بين جهل أو تجاهل، وعلى كل الأحوال فإن الإرهاب وسيلة، وليس غاية، وعرض وليس جوهراً. ولن تتأتى المواجهة الايجابية إلا حيث يتحقق المعنيون من أسبابه. لماذا وجد الإرهاب في هذا الزمان، وفي تلك البقعة، وعلى يد هؤلاء الأفراد أو الجماعات؟ فممارسته ليست عبثاً ولا تسلية والمنتحر لا ينتحر إلا عن عقيدة نافذة في الأعماق. والراصد لحركات الإرهاب يعرف شيئاً، وتغيب عنه أشياء، فبقدر معرفة أسبابه وانتمائه يكون سداد الرأي وصواب المواجهة، والحصيف من يتقصى كل المتعلقات، ومن يدقق في كل الأوراق، ولا يستعرضها، ذلك أن عقابيله كما الفتن تُصيب الضالع والممانع، ومتى أخطأ المتصدي في التوقيت أو في التقدير تفاقم الخطر. فالعمليات الإرهابية حين تنفلت خيوطها، أو حين يخطئ الطرف المقابل في تحديد مصادرها، يستشري ذووها، ويستمرئون مواصلة الأعمال الإرهابية، وليس من العدل المجازفة في نسبة الإرهاب لمن تقوم مبادئه على التسامح والتصالح والتعايش.
والأمة الإسلامية أمة الوسط، أقرب إلى التبين، وأبعد عن العنف في القول أو في الفعل، وأجواؤها أبعد الأجواء عن الإرهاب بكل مفاهيمه، ولقد استلهمت ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، وهي الأكثر إمعاناً في التثبت امتثالاً للتوجيه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ففي الآيتين أمر في عدم مباشرة الحرب إلا بعد التبين، وأمر بالتثبت في الحكم على الناس بالكفر. فهناك منع للفعل ومنع للقول، وهما مصدر الإيذاء. وأمة هذا شأنها لايمكن أن تتهم بالإرهاب، ذلك أن مؤشرات الغلو والتطرف تكمن في المبادرة في القتل أو التوسع في التكفير، وليس في القرآن ولا في صحيح السنة ما يوحي بشيء من ذلك. وكلما كانت هناك أركان وواجبات ومستحبات ومباحات لأي حضارة كانت هناك محرمات ومكروهات، ولايمكن تمييع الأمور باسم الحرية أو الوسطية أو التسامح، فالدين والحضارة والطائفة لايتحقق شيء منها إلا بشرطه، وتمثل الشرط والدفاع عن المقتضى لايعد إرهاباً. وما كان الإسلام بدعاً بين الديانات الإنسانية في محققاته، وحين يكون من لوازم أي ديانة (الإيمان) و(الكفر) و(الردة) تكون الضوابط والاحترازات. ومع هذا نهي عن التنابز بالألقاب، وأمر باجتناب الظن، ووردت آيات تحذر من ذلك. وهل بعد تكفير المسلم من ظن سيئ؟. والإسلام نهى المسلمين عن قفو ما لا علم لهم به. وأوضح شيء في النهي عن التكفير ما جاء في صحيح مسلم (إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهم) وفي رواية (إلا حار عليه) وفي البخاري (ولايرمين بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) وعنده (ومن قذف مؤمناً بالكفر فهو كقتله) وعند أبي داود (ثلاث من أصل الإيمان -منها-: الكف عمن قال لا إله إلا الله لانكفره بذنب) وفي حديث آخر جمع بين تحريم الدماء والأعراض والأموال، والثلاثة مجال الإرهاب. وعقيدة السلف الصالح ألا نشهد على أهل القبلة بكفر ما لم يظهر، وما في السرائر متروك لله. والاحتراز من التكفير واجب المستبرئ لدينه وعرضه، وتعمد القتل لمن نطق بالشهادتين بحجة التقية والنجاة يعد قتلاً لمعصوم، حتى ولو قالها حين يظفر به المسلم أو حين يعاين الموت. وقصة (خالد بن الوليد) رضي الله عنه واضحة في ذلك. وعلماء السلف المتشربون لأصول الدين السليم يدركون خطورة التوسع في التكفير، ولا يرونه إلا في الخارج من الملة الميت على ذلك، وفي تكفير المرتد عن الدين شرط الموت على ذلك، تمشياً مع قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وقد أشار (ابن الجوزي) إلى أن حكم الكفر يستقر بالموت عليه.
وقد جاء ذكر الموت على الكفر في أكثر من آية قرآنية و(لابن تيمية) رحمه الله رؤية دقيقة في موضوع التكفير، لو وعاها الموغلون، لما كان لهم أن يقعوا في مثل هذه المآزق، ولما كان لأحد أن ينسب الإرهاب للإسلام، ومصطلحات علماء الكلام قد يكفر بموجبها من لم يفهم مقاصد المصطلح، وقد ضرب ابن تيمية مثلاً في مصطلح (تحيز الخالق) عن المخلوق. واحترازات السلف في شروط التكفير وموانعه تحول دون انتماء الإرهاب إليهم، فهم لايكفرون قائل كلمة الكفر جهلاً أو عن شبهة، ولايكفرون معَّيناً، وكون القول أو الفعل كفراً لايحكم على صاحبه به، والتحرز من تكفير المعين تحرز إيجابي. والسلف الصالح الوسطي المستنير لا يُقْدِمُونَ على التكفير أو التفسيق إلا وفق ضوابط وقواعد في غاية الشدة والاحتراز. واحترازهم يذودهم عن الاتهام، وحسن الظن بالمسلم يحجرهم عن المجازفة بالتكفير، وتوخيهم العدل والإنصاف يحيد بهم عن المجازفة في الأحكام. وأمة هذه أخلاقها لايمكن أن ينسب إليها عنف ولا إرهاب، وما رأيت حجة ساقطة كحجة من يحيل الإرهاب إلى الإسلام بعد وضوح رؤيته وتجلي موقفه من المخالف.
والذين يجازفون بالتكفير، ولا يحترمون أعراض المسلمين، لاشك أنهم لن يحترموا دماءهم وأموالهم. ولقد اجتاحت الأمة موجات من الاستياء والإحباط، أدت إلى ظهور طوائف من الغلاة الذين حملتهم شدتهم إلى مقاطعة الأمة واعتزال مساجدها، والتوقف عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمعات في نظر هذه الجماعات الغالية كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، حتى لقد قاطع بعضهم المدارس والوظائف، ولعبت بهم عواطف دينية هوجاء، حادت بهم عن الموضوعية وعن منهج السلف مع المخالف، ومثل هذه الموجات العارضة لا تجيز القول بأن الإسلام مصدر الإرهاب، والديانات القائمة والمنقرضة قد تتعرض لفترات مرضيّة تتمثل بالضعف أو بالعنف، والأمة الإسلامية مرت بحالات ضعف صعدت عندها حالة الاستياء، وهي اليوم في أسوأ حالاتها، وبعض طوائفها غلت في الدين، وتوسعت في التكفير، وكان لطائفة التكفيريين أصول في غاية السذاجة والبدائية، والقول من خلالها مؤشر جهل وتخلف، كالقول: بأن عرب اليوم ليسوا في تمثل اللغة وفهم مقاصدها كعرب الأمس، ممن نزل القرآن بلغة التخاطب عندهم، وكالقول بثنائية الديانات: الكفر الخالص، أو الإيمان الخالص، وليس بين هذه الثنائية دركات ولا درجات، وكقسمتهم الإسلام إلى أصول وفروع، ثم القول: بعدم العذر لجاهل في الأصول. وابتسارهم الآيات من الذكر الحكيم هي أبعد ما تكون عن مساندة ما يذهبون إليه، ومثل هذه الطوائف ليست على شيء من الحق، ولايجوز لمنصف أن يتصور الإسلام من خلالها. ولقد تقصى هذه الأصول، وفندها واحداً واحداً الأستاذ (عبدالفتاح شاهين) في كتابه (ظاهرة التكفير: شبهات وردود)، وتبدت لطائفة من العلماء والمفكرين الراصدين للحركات الإسلامية بعض المشكلات المصاحبة لهذه الحركات، سواء منها من كان في الحكم أو من كان خارجاً عليه معارضاً له، وسواء منها من كان ذا طابع سياسي أو كان ذا اتجاه تعبدي سلوكي تعاملي، لا ينظر إلى المسؤولية، ولا ينازع السياسة سلطتها. ولعل من أبرز المشاكل التي ارتبكت بسببها بعض الحركات الإسلامية: فقد التخطيط، واضطراب المفاهيم، وتعدد مجالات الأداء وحدودها، ونقص الكفاءات البشرية: إدارةً وقيادةً، والخلط بين الحل المرحلي والنهائي، ووضع الأهداف في معزل عن الإمكانيات، والتقاعس عن المحاسبة والتقويم، ونقد الذات، وتحمل مسؤولية النكسات، مع ممارسة الإسقاط، والمبالغة في دعوى الغزو والتآمر، وتجزيئية الرؤى والتصورات، وتغليب جانب الصدام والصراع على الحوار والتعاذر والتعايش، والإغراق في المثاليات والعنتريات والعواطف والانفعالات، في ظل فقد الأجواء الملائمة. وكل هذه العوائق لاتخول التخطي للإرهاب، ولكنها قد تجر إليه، وفي ظل هذه العوائق تتحفظ المؤسسات السياسية على تلك الحركات الاسلامية والقومية والطائفية، وتصعد التحفظ، بحيث يصل إلى حد التضييق والخنق، وقد تأخذ البريء بالمذنب فتكرهه على المواجهة غير المشروعة. ولقد مرت الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات بفترات تاريخية تمخضت عن حركات غالية في السلوك أو في التعامل، أدت إلى صدامات دموية معلنة وتنظيمات سرية متغنِّصة. ولما تكن الحضارة الاسلامية وحدها مَنْ مر بهذه الحالات، فكل حضارة لها مراحلها التي يستفحل فيها الغلو والتطرف. وما مِنْ منصف نسب الإرهاب إلى هذه الحضارة أو تلك، لمجرد أن طائفة أو نحلة غلت، ولوت أعناق النصوص، أو ابتسرتها من سياقاتها لتوافق نوازعها. ولقد عرف التاريخ السياسي الإسلامي قوى المعارضة ك(الخوارج) و(الشيعة) و(المعتزلة) و(المرجئة) و(الهاشميين) و(الزبيريين) بكل أبعادها: الدينية والسياسية، ولقد صنفها البعض إلى يمين ويسار، مسايرة للتصنيفات المعاصرة، فيما وصفها البعض الآخر ب(قوى الظل) والتمس بعض الثوريين المعاصرين أسباباً سياسية مباشرة لقيام هذه التنظيمات، بحيث عول على (الملكية الوراثية) في العصرين: الأموي والعباسي، والخلافة الكسروية المتداولة بين: الفرس والأتراك في العصر العباسي، وتبادل المواقع في المشهد الفكري بين الطوائف الإسلامية. وتاريخ الدول المتتابعة مليء بالأحداث الجسام، وظروف سياسية ودينية كهذه مؤهلة للتنظيمات السرية، وقد راوحت تلك الحركات بين العنف الثوري والدعوة السرية المنظمة، تصعد حتى تبلغ ذروتها على يد (القرامطة) و(الحشاشين) و(الزنوج) ثم تخبو وتبلغ قعرها عند (المرجئة) و(الباطنية)، والعنف الثوري المعاصر لايحمِّل الأمة العربية ولا الإسلامية معرة الإرهاب، فكم من حكومات إسلامية معتدلة، وكم من حكومات ثورية تجاوزت مرحلة العنف، واستقرت أمورها بعد موجات من العنف الدموي، والقارئ للتاريخ الفعلي (للثورة الفرنسية) يروعه ما مُورِسَ فيها مِنْ عنف دموي، تستر عليه الممجدون لأم الثورات في العالم، والحروب العالمية الهمجية ليست من صنع الإسلام، والتعذيب غير الإنساني للسجين والأسير، والعنف في المواجهة، والاستيطان الصهيوني، والاحتلال البغيض، كل ذلك ليس من الإسلام ولا من المسلمين، بل هو واقع عليهم، وما من أحد قال بنسبة الإرهاب لحضارة الغرب التي أرهقت شعوب العالم، وكادت تفقدها صوابها وحكمتها في معالجة الأمور.
يتبع |