منذ متى بدأنا نشعر بتسرُّب ماء التقسيمات في ترابنا.. حتى صدع جدراننا.
منذ متى ونحن صامتون أمام تسلل التصنيفات والتكتلات ذات التسميات التي تشي إما بالخروج أو بالدخول المجاني لحيازة الحق..
** بدأت هذه المرحلة مع ظهور الحداثة كتجربة إبداعية أو قبلها قليلاً بدأنا نشعر بأن ثمة أسماء ولاستخدامات لفظية في منتجها الإبداعي تصنف وتُقصى دون أن تُعطى الحق في عرض وجهة نظرها.. أو حتى في المواجهة التي قد تسفر عن العودة عن الخطأ إذا وجدت..
انحصر على أثر ذلك الكثير من الإبداعات وأذكر أن د. محمد بن حسين علَّق على مجموعتي الأولى بأمله أن السنوات القادمة ستبلور اتجاهاً إبداعياً متميزاً لدى الكاتبة أو القاصة.. لكنني في السنوات التي بعدها عام 1411هـ مع قائمة من القاصين والقاصات حبسنا أنفاسنا مع كل كلمة نكتبها لإحساسنا بأن ما قد نخطه بأقلامنا قد يورث قلقاً كبيراً في مجتمع نحبه ونريد له الهدوء ونحلم بالتواؤم معه والسير معه وليس باتجاه معاكس له..
قادتنا المحاذير إلى ردم كل حلم قد يغز السير باتجاه أقلامنا وقد اندغمنا بذلك وشعرنا بأن هذا جزء من التكيُّف الذي لا بد أن نساير به ما حولنا من أشياء.. ونسينا لغتنا وأحلامنا وانشغلنا بمطاردة قضايا تكدس الخريجات والمباني المدرسية المحترقة والعمالة الزائدة.. وكان بإمكان الأقلام الكثيرة التي اختارت النأي أو الحضور وفق مقاييس الموجود والمسموح به.. أن تنتج أدباً قيِّماً يحمل روح الأرض ونبت التراب ورائحة المطر الخاص.. ونسغ الملامح الشعبية وتفاصيلها في كل منطقة دون أن يتقاطع مع القيم والأسس الدينية.. لكن الخوف تشكَّل كجبل من جليد من السهل إذابته لكن من الصعب زحزحته.. كان بإمكاننا أن نجرب وأن نشتغل على عملياتنا الإبداعية بدلاً من الحنق على الداخل الصامت الذي أفرز ردة فعل على الجانب الإبداعي الذي رحل إلى الخارج ليكتب حنقاً وغضاً وتجاوزاً وربما تحدياً .. (!!) كي يقول فقط أنا موجود بطريقة مستفزة أحياناً.
** فظهر بعض الأدب المتقاطع في بعض مواضعه مع بدهيات ربما لو أنه نشأ في الداخل بقولبته الاعتيادية وبخطواته في وسط أهله وناسه لما كان بهذا الخروج الفاضح..
مع أن الأدب الممعن في الحديث عن موضوعات مثل الجنس والانحراف والإغراق في توصيفه بشكل فج ومقزز.. موجود وكثير في تراثنا الأدبي ووجوده مجدداً وعلى يد بعض الكتَّاب السعوديين لا يعد جديداً.. وظل الرأي العام فيه واحداً على مرِّ العصور الأدبية العربية وهو الرفض تصريحاً والاطلاع عليه والاحتفاء به في الخفاء.. ولم يمنع هذا من وجوده والشواهد كثيرة.. وطرد عمر بن عبد العزيز لعمر بن ربيعة من المدينة أحد الشواهد.. وألف ليلة وليلة شاهد آخر والقائمة تطول..
** أمامنا الآن عشرون سنة مضت.. من الخير لدارسي الاجتماع والتاريخ والأدب أن يقيموها كتجربة إنسانية ومقارنتها مع أي حقبة من التاريخ والنظر والتدقيق في نتائجها الإيجابية للاستفادة منها ولإبقائها وتطويرها وتعهدها بالحفظ والصون وكذلك النظر في ناتجها السلبي والسعي الجاد في القضاء عليه وكشف مخبوئه ومواجهة الناس به كي يعرفوه ويستفيدوا من مكاشفته والتخلص منه.. وشجاعة د. عبد الله الغذامي ظاهرة للعيان في كتابه (حكايتي مع الحداثة).. وتحتاج الحقبة العشرينية الماضية لأكثر من شجاعة كاتب واحد.. نحتاج لشجاعة تعددية من اتجاهات وأطياف متنوِّعة.. وفي هذه اللحظة بالتحديد بدا لي أن الشيخ عائض القرني مؤهل بدرجة عالية أن يكتب مؤلَّفاً يتحدث فيه عن تجربته خلال العشرين عاماً الماضية بكل تحولاتها وبكل ثرائها.. وربما يصح أن يكون عنوان كتابه (حكايتي مع الصحوة).. وهذا مثال فقط..
** نحن بحاجة ماسة إلى مكاشفة إثرائية لواقعنا الذي مررنا به.. نريد أن نؤرخ العشرين سنة التي مضت.. ونستفتح عشرين أخرى نأخذ من خير ما مضى ونترك ما كان شراً أورث لنا أخطاء الحاضر.. والمرشحون لكتابة ثرية كُثر.. المهم هو الشجاعة في كشف الحقيقة.. الحقيقة ولا غير!!
فاكس 4530922 |