أدب الرحلات أدب شائق لأنه تجسيد للتجربة الإنسانية، ووعاء أمين لنقل المشاعر والمعاناة وماهو قريب من الوجدان في لحظة الحدث، وتزيد أهمية هذا الأدب عندما تصاغ تلك المشاعر بيد ماهرة، تستخدم كلمات معبرة، ويصبح تعلق القارئ بهذا الأدب أكبر إذا أصبحت تلك المعاناة أثراً بعد عين، مما يغري الحاضر بتعقب معاناة الماضي، ورسم صورة واضحة للفرق بين حقبتين تاريخيتين مختلفتين في كثير من عناصر عطائها وتفاعلها وظروف معاشها وعلاقاتها الاجتماعية وطريقة تفكيرها إلى آخر ما يتعلق بإنتاج الفكر الإنساني.
ومن هذا الأدب بصورته هذه رحلة الحج التي قام بها سعد بن أحمد الربيعة وسجل أحداثها في مذكراته الشخصية بأسلوب أدبي ماتع أعده للنشر حفيده سعود بن عبدالعزيز الربيعة وقامت بالعناية به ونشره دارة الملك عبدالعزيز في عام 1424هـ بعنوان (رحلة الحاج من بلد الزبير بن العوام إلى البلد الحرام) وهو الكتاب الرابع ضمن سلسلة (كتاب الدارة).
مدوِّنُ الرحلة هو سعد بن أحمد الربيعة التميمي عاش في كنف والده الذي سافر بحثاً عن الرزق من بلدته جلاجل إحدى قرى سدير إلى الزبير وقد انطلقت رحلته من هناك في الثالث والعشرين من شهر شوال سنة 1345هـ وانهت بعودته إلى منطلقه في الرابع من شهر صفر سنة 1346هـ، واستخدم في تسجيل أحداثها منهج اليوميات، مع ظهور ذاتية الكاتب وانطباعاته، وبروز قدرته على رسم صورة واضحة الملامح للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في زمن الرحلة.
تحدث كاتب الرحلة في بدايتها عن طبيعة الطريق الذي يسلكه الحاج آنذاك وما فيه من صعوبات جمة ولاسيما وعورته وشح الماء في معظمه وطبيعة العلائق الاجتماعية آنذاك التي تمثلت أصدق تمثيل في خروج الأهالي يودعون الركب بالبكاء والنصائح والدعوات وسجل ذلك بأسلوب أدبي رائع ولاسيما حديثه عن طبيعة انفعالاته، بل عن انفعالات الشرقيين عموماً، ولم يخل حديثه من الدعابة المحببة كوصفه تكالب القوم على القهوة وما معها بأنه مثل تداعي الأمم الاستعمارية على مواطن الضعفاء!
وبرزت ثقافة المؤلف الجغرافية من استعانته بأدوات علمية لقياس درجة الحرارة، ومن خلال وصف ما رآه من جبال وأودية ورياح وأمطار وغيرها وصفاً دقيقاً ومؤثراً كما هو واضح من وصفه مواطن الجمال التي تخلب الألباب في الدهناء التي دخلوها من معبر الخريمة وصراحته في تلبية رغبته في التمرغ على رمالها الذهبية والتلال المكسوة بالكلأ النظير، وقضاء لبانته منها، ومن وصفه جريان رمال النفود على الأرض جريان الماء في النهر.
وصف كاتب الرحلة حالة الأمن في عهد الملك عبدالعزيز وأمانيه وتطلعاته لهذه الجزيرة العربية في عهده الميمون كما أبان المؤلف عن شغفه بتاريخ هذه المنطقة حيث كان حريصاً على معاينة موقع وقعة الطرفية ووصفه وصفاً مؤثراً، وكاتب الرحلة كان حريصاً على تحري الدقة في وصفه أي شيء يعن له، وبلغت دقته أنه حسب الزمن الذي استغرقه خطيب الجمعة في جامع بريدة الوحيد آنذاك منذ صعوده المنبر إلى جلوسه بين الخطبتين ومن خطبته الثانية إلى إقامة الصلاة كما لم ينسَ عدد طبيعة أرض الجامع المفروشة بالرمل الناعم وأعمدته وطول كل منها ونوع الحجر المبنية به.
وفي وصفه لمناسك الحج ومشاعره أوضح ما كانت عليه الحال من الزحام والضنك الشديد والخوف من الإبل العابرة وشدة الحر وهجمة البعوض والروائح الكريهة المنبعثة من اللحوم الملقاة هناوهناك وجيف الكلاب والهررة، وكان أشد ما آلمه وقطع قلبه أسى وحسرة وأبدع في وصفه أيما إبداع منظر الخلائق التي لاتُعد ولا تُحصى على تباين صورهم وأجناسهم لاترى منهم واحداً عليه سيماء الخشوع والرهبة وهم يؤدون مناسكهم، بل كلهم كأنهم في أشغال خصوصية والكل منهم يتهالك على قضاء شغله ويتذرع لقضائه بكل الطرق حسنها وقبيحها فترى القوي يدفع الضعفاء والشيوخ والعجزة ولايبالي بمصيرهم حالة يبكي عليها الإسلام ويسأل المصلحون إصلاحها.
حرص المؤلف على القيام بمسح شامل للحرم في تاريخ الرحلة، متحدثاً عن أطواله ومشتملاته وسقايف المذاهب الفقهية التي يصلي فيها إمام كل مذهب إلى ان جمعهم الملك عبدالعزيز على إمام واحد، وهكذا فعل حين وصل إلى المسجد النبوي، مستعرضاً مشتملاته حتى دواليب مخازن الكتب المذهبة، وهكذا استمر في سرد يوميات رحلته إلى أن عاد إلى بلده، متحدثاً عن الأماكن التي مر بها والوقائع التي صادفها الركب، وفي آخر الكتاب سرد مصاريف الحج، وكان سرده لها دقيقاً إلى درجة يمكن معها أن تكون دليلاً موثوقاً على الحالة الاقتصادية بعملاتها وتجاراتها وعلى الحالة الاجتماعية بأعرافها وعلاقاتها السائدة في وقت الرحلة.
كتاب (رحلة الحاج من بلد الزبير بن العوام إلى البلد الحرام) بلغت صفحاته مئة وأربع وخمسين صفحة من القطع المتوسط 14*21سم، لكنه ثري بمعلوماته، جميل في معالجته التأليفية وبالأسلوب الأدبي الرائع الذي أوتيه المؤلف. وبالله التوفيق.
ص.ب20242 الرياض 11477
|