بما أن الملحمة هي (قصيدة طويلة، فخمة الأسلوب، تصور حياة الأبطال، وتروي مآثرهم، وتتسم وقائعها بالشرف والإجلال.. يبلغ عدد أبياتها عدة آلاف، كون سيرة البطل هي الموضوع الذي يربط كل أجزائها، ويتعاقب على نظمها جيل كامل من الشعراء معتمدين في موضوعها على سيرة البطل وما تحويه من مثل عليا.
بما أن هذه هي الملحمة، فإن موقف الوطن من رحيلك، يا عمي، يجسد ملحمة إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ملحمة أنت، بطل، فخر، جدير بها.
الحقيقة كانت هذه الملحمة الوطنية عزاءنا في فجيعة فقدك، فلم نحزن وحدنا لفراقك بل شاركنا الوطن حزننا، ولم نبك وحدنا عمنا وعميد أسرتنا، بل شهدنا الوطن يبكي أحد أبرز رجاله.
وإن كان الوطن عادة، لا يهتز على هذا النحو بفقد فرد، فلأن الوطن يدرك حقاً أنك لست مجرد فرد في التعداد السكاني، بل أنت رمز من رموز الخير والعطاء والمواطنة الحقيقية.
لن أتطرق لإنجازاتك وتاريخك المشرف في العطاء الوطني، سواء إسهاماتك في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية للوطن والتي استحققت بها وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، أو بذْلك وتفانيك في الأعمال الخيرية والإنسانية والتي تجاوزت حدود الوطن لتشمل العالم الإسلامي بل والمراكز الإسلامية في بقاع العالم كافة.
لن أتناول مآثرك هذه، فهي تتحدث عنك، ولكني سأتناول تركيبتك الإنسانية الفريدة، والتي هي منطلق كل هذا الإنجاز والعطاء الإنساني الفذ.
يمكنني القول بكل تجرد وموضوعية، أن هذا الرجل هو حقاً رجل متفرد في تركيبته الإنسانية، وبحكم هذه التركيبة النادرة تمكن من تحقيق المعادلة الصعبة للوجود الإنساني.
بمعنى آخر، كيف يمكن تطبيق القيم والمثل الإنسانية المتعارف عليها نظرياً، على أرض واقع يتسم بظروف وتحديات تجعل الممارسة الإنسانية المثالية للحياة، مجهودا جبارا، في ظل متغيرات الحياة ومغرياتها، ومتناقضات النفس البشرية التي فطرت عليها.
هذا الرجل، استطاع تجاوز هذه الإشكالية، وتحقيق المعادلة، وقدم نموذجاً حياً على قدرة الإنسان في تحدي معوقات الممارسة الإنسانية المثالية للحياة.
والواقع أنه، كما عرفنا وشهدنا نحن أبناء وأحفاد الأسرة الذين نشأنا في مدرسة محمد الجميح الإنسانية، كيف يكون تحقيق المعادلة، فإن من حق الآخرين أن يعرفوا كيف تتشكل الرموز والنماذج الإنسانية الوطنية الفريدة.
منذ بدأ يتشكل وعينا في هذه الحياة،كنا نحن أطفال الأسرة، ونحن نرى هذا الرجل (المدرسة)، رجلا مختلفا متميزا، نشعر نحوه بإجلال وإكبار كان رحمه الله، بحكمته ورجاحة عقله ونفاذ بصيرته، يدرك ويعي تماماً قيمة البناء والتنمية والاستثمار في (الإنسان) قبل المال والثروة وكان برغم مشاغله العملية والاجتماعية، يسعى باستمرار لتوجيهنا كأبناء للأسرة ومن ثم الأحفاد، إلى استيعاب مفهوم أساسي للحياة هو أن القيمة الحقيقية هي في أخلاق الإنسان ومبادئه وليست في الجاه والثروة ولم يستخدم- رحمه الله- أسلوب الوعظ المباشر في توجيهاته لنا وغرس المفاهيم التي يؤمن بها. بل كان أسلوبه في ذلك، ومنذ زمن بعيد، هو ما يسمونه اليوم الأسلوب التربوي الحديث، ألا وهو أسلوب (القدوة) كان يؤدبنا بأخلاقه وأفعاله وليس بأقواله، بسلوكه وليس بمواعظه.
وعندما نشأنا وكبرنا وأنجبنا الاحفاد في مدرسته، شهدنا جميعاً كيف يحقق المعادلة الإنسانية الصعبة على أرض الواقع، ويمارس المثاليات في عصر المغريات. ففي هذا الزمن، زمن الانطلاق والفردية والذاتية علمنا كيف يكون الترابط والتلاحم، وكيف تترجم قيم الجماعة في الإيثار وتقدير الكبير واحترامه.
حتى بعد أن توسعت الأسرة وتمددت وتضاعف أفرادها، كان يحرص على أن تستمر الأسرة في السكن في مجمع واحد داخل سور واحد يمارسون من خلال تقاربهم قيم الجماعة. واستطاع بأسلوب القدوة المحبب أن ينشئ بتلقائية، جيلين متعاقبين، يجتمع أفرادهم على مأدبة واحدة، ويستقبل كبارهم وصغارهم كل مساء ضيوف الأسرة بحفاوة وترحيب.
أليس في تلك الممارسة البسيطة، على سبيل المثال، دروس عملية تنطوي على قيم كثيرة يتم استيعابها ودمجها في مفاهيم الصغار من خلال الممارسة، قيم كالتعاون والبر وصلة الرحم والكرم والتواضع وتقدير الكبير واحترامه والانضباط.
اجتهدنا أن نتعلم في مدرسة عمي الإنسانية، ويتعلم أبناؤنا دروس تحقيق هذه المعادلة الإنسانية الصعبة بكل تناغم وسلاسة. معادلة الجمع والتوفيق بين الحياة العصرية وبين القيم الإنسانية الأصيلة التي لا تتبدل مع متغيرات الحياة: كيف تملك الثروة والجاه وتتواضع.. كيف تحب ذاتك وتحب الآخرين.. كيف تتمتع بالمال وتذكر غيرك وتمنحه مما تملك.. كيف تكون ثرياً ومع ذلك تنفق بحكمة واعتدال بلا إسراف أو بذخ.. كيف يمكن أن تشغلك مباهج الحياة وملهياتها عن صلة رحمك وبر أقاربك ومع ذلك تتواصل معهم.. كيف يمكن أن تكون عظيما وفي نفس الوقت بسيطاً..
باختصار المعادلة تفترض أنه مهما كانت الحياة بظروفها ومعطياتها قد تدفعك لأن تكون، فإنه في النهاية أنت بإرادتك وعزمك تختار من تكون! هكذا كانت فلسفة عمي، رحمه الله.
في المدارس تعلمنا الأناشيد الوطنية وتشربنا حب الوطن، وفي المنزل عايشنا عمي يمارس الوطنية بأسمى معاني الوفاء والولاء والانتماء اسمه يتردد في كل مشاريع التنمية، وبناء كيان الوطن، واسمه يتصدر كل قوائم الأعمال الخيرية.
عايشنا حبه لمسقط رأسه (شقراء)، ولمسنا الولاء والوفاء نموذجا حياً يتجسد في أنشطته التنموية والخيرية فيها وتواصله الدائم معها ومع أهلها. وترجم هذا الانتماء في إقامته مسكنا للأسرة، يتردد عليه ليجتمع فيه بأهله ويطلع على أحوالهم واحتياجاتهم ويلبيها بكل أريحية وجود حتى تشكل الولاء في نفوسنا بكل تلقائية وعفوية. وأصبحنا نحن الأبناء والأحفاد نزور (الشقراء)، كما يسميها البعض، ونعشقها ونكاد نرى جذورنا في ترابها الأشقر، ونستمتع بعبق التاريخ في زواياها وجنباتها العتيقة وبقايا سوق (حليوة) والذي تخرج من دكاكينه كبار الاقتصاديين ورجال الأعمال.
وبالرغم من هذه الخصوصية الحميمة التي تتمتع بها (شقراء) في وجداننا، إلا أن عمي -رحمه الله- أنشأنا على حب الوطن بكل أطرافه. وكانت دروسه في حب الوطن تتجاوز التنظير إلى ممارسات عملية. فقد تعرفنا على كل أرجاء الوطن من خلال اطلاعنا على مشاريع الخير التي ينشئها والتي لا تعرف الحدود لجغرافية الوطن.
فمن خلال إسهاماته الخيرية من مشاريع إسكان ومشاريع مياه ومساجد وغيرها، تعرفنا على مناطق متفرقة من وطننا الحبيب من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وما لم نعد نذكره من دروس الجغرافيا، أصبح مألوفاً على أسماعنا ونحن نتصفح ملفات المشاريع الخيرية، مناطق مثل (أملج) و(ثلاثاء بني عيسى) في القنفذة مثلاً لم تعد مجهولة بالنسبة لي.
لله درك يا عمي.. كيف يكون الإنسان مدرسة متكاملة؟، منهجها التربية بالقدوة وتجسيد النموذج.! حقاً إنك رمز فريد، والرموز لاتتكرر كثيراً.
رحل فارس العطاء بصمت، كما كان يحب أن يبذل بصمت، ولكن الوطن تحدث وأبى إلا أن يسجل ملحمة وفاء ناطقة في حقه. ولأن الوطن وفيّ لم يدع الأوفياء يرحلون بصمت.
وإن كنت قد رحلت يا عمي بجسدك، فإن مجدك باق في ذاكرة الوطن، وحبك وتقديرك راسخ في قلوبنا، ودروسك التي تعلمناها في مدرستك سنتمثلها ما حيينا نحن وأبناؤنا، والذين عايشوك ، أما أحفادنا القادمون فسوف نحكي لهم عن عظمتك حيث لم يكتب لهم أن يعايشوه ،وسوف نقول لهم كان في أسرتكم رجل عظيم يستحق أن تفخروا به!! نعاهدك يا عمي، كما كنت تتابعنا وتحنو علينا فرداً فرداً، سنذكرك جيلاً بعد جيل.
نسأل الله تعالى أن يرحمك بواسع رحمته، وأن يجزيك عما قدمت خير الجزاء، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأن يجعل جنان الخلد مثواك مع النبيين والصديقين والشهداء والأبرارالصالحين.
|