Saturday 8th May,200411545العددالسبت 19 ,ربيع الاول 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الشيخ السديس في حوار حول فضل السُّنَّة والسيرة: الشيخ السديس في حوار حول فضل السُّنَّة والسيرة:
على العلماء بيان صحيح السُّنَّة والسيرة حتى لا تختلط المفاهيم ويصبح المعروف منكراً

* الرياض - الجزيرة:
السُّنَّة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وقد هيأ الله لسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة رجالاً وعوا مكانتها وقدرها، فعملوا على جمعها وتسجيلها وتحقيقها في كتب صحيحة، وبذلوا في سبيل ذلك جهداً عظيماً، ورغم ذلك لم تسلم سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته من فهم خاطئ يخرج بها عن مقاصدها النبيلة، أو سهم حاقد يطلقه عدو متربص، أو هوى زائغ يعمي صاحبه عن طهارتها وإعجازها، فينحرف به إلى البدع والمحدثات، فيبذر بذور الفرقة والخلاف في الأمة.
لكن ما هي مسؤولية العلماء في الدفاع عن السنة والتعريف بفضلها ومكانتها؟ وما هي حدود مسؤولية الفرد المسلم؟ وهل فهم السنة والسيرة بحاجة إلى إعادة نظر فيهما للتدقيق والتحقيق؟
هذه التساؤلات وغيرها طرحناها على فضيلة الشيخ د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس إمام وخطيب المسجد الحرام والأستاذ بجامعة أم القرى، فكان هذا الحوار:
* كيف تنظرون إلى ندوة عناية المملكة بالسنة والسيرة النبوية والتي ينظمها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة؟
- نحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، شرح الله صدره، وأعلى ذكره، ورفع قدره، وجعل الذلة والصغار على مَن خالف أمره، أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فتركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.. الحق ما جاء به، والدين ما شرعه، ونشهد الله الذي لا إله إلا هو على محبته -صلى الله عليه وسلم- محبة تفوق محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين. أما بعد، فأقول مستعيناً بالله سائلاً إياه التوفيق والسداد: كما يبدو من عنوان (الندوة) عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية يتراءى لنا أنها صورة مشرقة جديدة من جهود ولاة الأمر في بلادنا المباركة -حفظهم الله- وحلقة وضاءة في سلسلة متلألئة من سجل ناصع وسفر حافل في العناية بكل ما فيه خير الإسلام والمسلمين، فمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف يقوم بدور رائع وجهد مشكور في العناية بكتاب الله العزيز طباعةً وترجمةً لمعانيه وتوزيعه على المسلمين في جميع أنحاء العالم بما يحقق أنموذجاً في حفظ الله لكتابه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.. وليس مستغرباً أن يولي المجمع عنايته بالسنة النبوية المطهرة وسيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- العطرة، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، والسنة هي المصدر الثاني لا انفصال بينهما، وهذا أيضاً ليس مستغرباً على وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة بمعالي الوزير العلامة الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ المشرف العام على المجمع، جزى الله الجميع خير الجزاء.
* نسأل فضيلتكم عن فضل ومكانة السنة النبوية والسيرة في حياة المسلم؟
- حينما تكثر الفتن وتدلهم الخطوب والمحن في أي مجتمع تخيم على سمائه الصافية سحب المخالفات، فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم السنن على كثير من الناس، فيختلط الهدى بالضلال، ويبقى عز الأمة وسعادتها، وصلاحها وهدايتها، وسلامتها وسيادتها، وفلاحها وريادتها مرهوناً بتمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم- لا انفصال بين الكتاب والسنة، وشواهد ذلك جلية في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. فيوم أن كانت الأمة متمسكة بإسلامها الحق، مهتدية بنور الوحيين، مقتفية آثار النبوة دانت لها المشارق والمغارب، واجتمعت كلمتها، ورفرفت رايتها على أصقاع المعمورة، ولم تجد البدع والأهواء طريقاً إلى مجتمعاتها، إلا أنه في غفلة من أهل الحق، وذهول من حراس الملة، وانشغال من أبناء السنة تسربت إلى صفوف الأمة ألوان من العقائد المنحرفة، وصنوف من الطرق الضالة التي شوشت على الأمة في أعز ما تملك، في عقيدتها واتباعها وحبها لرسولها صلى الله عليه وسلم، ففرقت الأمة شيعاً وأحزاباً، وتعددت المذاهب والرايات، لكن كل هذا لن ينال بمشيئة الله من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، بل إن الخلاص من شر الفتن والفرقة يتوقف على مدى الإخلاص والصدق في الذب عن السنة المطهرة.
وإن من رحمة الله بعباده أن يقيض لكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسيرته في كل زمان ومكان رجالاً أكفاء ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، و(لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم مَن خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) كما في الحديث في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام.
وإنه على مر العصور وتعاقب الأجيال، وورغم مؤامرات الأعداء، لا تزال سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة واضحة المعالم، مرفوعة الراية بحمد الله يهيئ الله لها أئمة الهدى؛ ليكونوا شموساً ساطعة تضيء الطريق لكل مَن أراد الخير والهداية، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
* حال الأمة اليوم يؤكد أننا لم نُعْطِ السنة والسيرة حقَّهما من الاهتمام قولاً وعملاً، فكيف تنظر إلى جهود العلماء في هذا الأمر؟
- قد لا أوافقك تماماً على هذه الصيغة التي قد يشم منها رائحة اللاتفاؤل، ولكن نحمد الله أن هناك الكثير من الجهود المشكورة في خدمة السنة النبوية المطهرة والسيرة العطرة، سواء تلك التي يبذلها أفراد أو هيئات أو مؤسسات، بهدف تفعيل الالتزام بهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله، وربما تتضح هذه الجهود في بلادنا المباركة بحمد الله بصورة أكبر من غيرها من البلدان الأخرى، لكن الأمر يحتاج إلى جهد أكبر كماً وكيفاً وتنسيقاً، ولا سيما في هذه الأوقات الحرجة؛ حيث الفتن المشتدة، والمحن المتلاحقة، والسبل المتداخلة، وارتفاع رايات الهجوم على معتقد الأمة ومنهجها وموروثها الحضاري، وثورة براكين الدعوة إلى الضلال، وأعاصير تحسين الغواية، وزوابع النيل من سنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم- وسيرته، وغيرها من الأمور التي تضاعف من حجم المسؤولية أمام حماة السنة والسيرة وأحباء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليهبوا من رقدتهم، ويفيقوا من سباتهم، ويكفوا عن انشغالهم بأمور جزئية ومعارك كلامية، ويذبوا عن سنة حبيبهم - صلى الله عليه وسلم- وسيرته، فيتعلموها ويعملوا بها، ويعلموها ويدعو إليها على بصيرة، ويجاهدوا في سبيل بيانها، ويكشفوا زيف كل ما يخالفها، حتى يكون الناس على بينة في أمورهم، وذلك -لعمر الحق- من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله في هذ العصر، يقول الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم رحمهم الله: (الذَّبُّ عن السُّنَّة أفضل من الجهاد)، ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: (المُتَّبع للسُّنَّة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله).
وأقول لحملة السُّنَّة من العلماء وعموم المسلمين: إن الحاجة ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى للتحرك بتجلية الأمور دون مواربة، وكشف للحقائق دون مجاملة، وبيان ما هو دخيل على السنة والسيرة مما هو أصيل، والتركيز على أمور العقيدة والسنة والاتباع، وإبطال كل ما يخالفها من المقولات والشبهات، حتى لا تختلط المفاهيم ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة والعياذ بالله.
* لكن ألا يرى فضيلتكم أن مثل هذه المسؤولية تفوق الجهود الفردية للعلماء وحتى الهيئات والجمعيات المهتمة بأمور السنة المطهرة والسيرة؟
- نعم، مما لا شك فيه أن خدمة السنة ليست مسؤولية فردية لهذا العالم أو ذاك أو هذه الجهة بعينها أو تلك، بل هي مسؤولية كل مسلم في حدود قدرته وطاقته وإمكاناته، فالعلماء عليهم واجب توضيح السنة والسيرة للعامة، ورصد المخالفات التي قد تقع عند تطبيقها وبيانها للنشء، حتى لا يحصل إفراط أو تفريط.
وكذلك المؤسسات التعليمية لها دور كبير في العناية بالسنة والسيرة في مجال الرواية والدراية والتطبيق والسلوك، ووسائل الإعلام أيضاً يمكن أن تقوم بدور فاعل في العناية بالسنة والسيرة، وعلى أقل تقدير بكفِّ كل ما يخالفها، وإتاحة الفرصة للعلماء للرد على ما يُثار ضدهما من شبهات وغيرها من الأمور، والتحذير من الاكتفاء بالمظاهر والدعاوى عن التطبيق الجاد والتمسك الحق، فالبعض جعلوا أياماً معينة لإحياء السنة ومعرفتها كل عام، واكتفوا بالحديث حولها دون الاهتمام بترسيخ تطبيقها الصحيح والعمل بها على الدوام، والأمر أجل وأعظم من هذه التصرفات التي لا توافق شرعاً صحيحاً ولا عقلاً صريحاً، والأعجب أن تلبس هذه الأمور لباس الدين والقربى، وما هذا إلا لغربة الدين وعظم الكربة، فالله المستعان.
* هل تتوقف عند مخالفات بعينها تقع من جماعات أو أفراد نتيجة فهم خاطئ لمكانة السنة المطهرة وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام؟
- إن الأسى -كل الأسى- أن نرى كثيراً من أهل الإسلام يجهلون حقيقة دينهم والتعامل الأمثل مع سنة وسيرة نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص وتحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية وتدقيق، وحينما يضرب المثل على ذلك نجد العجب العجاب، ففئات تغلو في الجناب المحمدي وترفعه إلى المقام الإلهي والعياذ بالله، وأخرى تجفو وتعرض فتنزل بمقامه النبوي الكريم إلى مقام العامة، وفئة ثالثة تنظر للسنة والسيرة كما لو أنها أقوال مأثورة، وقصص تُتلى، وفصول تُسرد دون متابعة أو اقتداء، فلا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً، ولا تحشذ عزائم. وفئة رابعة تتعامل مع سيرة المصطفى وسنته المطهرة كما لو أنها لعظيم من عظماء التاريخ، متجاهلة أن شرف النبوية وسمو الرسالة هما اللذان يحتِّمان له المحبة والاتباع، وأن ارتباطنا برسولنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- ليس ارتباط أوقات ومناسبات، ولا حديث معجزات وذكريات، بل إنه ارتباط وثيق في كل الظروف وجميع الشؤون إلى الممات، وشخصيته - صلى الله عليه وسلم- ليست شخصية مغمورة، ولا في جنبات التاريخ مطمورة؛ تبرز حيناً وتطوى حيناً، حاشاه عليه الصلاة والسلام، بل إن ذكره يملأ الآفاق، وسنته راسخة في العقول والقلوب، والشهادة برسالته تدوي عبر المآذن والمنابر، والمسلم الذي لا يعيش حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلبه، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره في كل لحظة من لحظاته، لا يغني عنه أبداً التغني بسيرته أو صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أغلى وأعلى من مدح ربه -جل وعلا- له وثنائه عليه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
* إذن بماذا تفسر جنوح بعض الطوائف والجماعات إلى ألوان غريبة من الإفصاح عن تعلُّقهم بالنبي عليه الصلاة والسلام؟
- ما جنح هؤلاء إلى ما يفعلون إلا بعدما أعياهم عبء العمل، وتركت نفوسهم العزمات واستسلمت للتواني والكسل، فالجهد الذي يتطلب العزائم هو الاستمساك والاقتداء، فبدلاً من التغني والترنُّم ينهض المسلم الجاد إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه، حتى يتحقق الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى يترجم تلك الدعاوى إلى واقع عملي في كل شؤونه؛ في معاشه ومعاده، في حربه وسلمه، في منشطه ومكرهه، في علمه وعمله، في عباداته ومعاملاته.
وإن تحويل الإسلام وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هزٍّ للرؤوس، وتضخيم للعمائم، وإطالة للسبح، وما يصاحب ذلك من تمتمات وهمهمات، وتعلق بأذكار وتسابيح ما أنزل الله بها من سلطان، وتمسك بقصائد وتواشيح لشيءٌ عجيب يحار العقل في قبوله، والأدهى أن تكون مثل هذه الأمور معايير لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يُرمى كل مَن تركها واستبان عوارها بتنقُّصه للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الأمور ينطبق عليها وصف الشاعر:
شنشنة أعرفها من أخزم
إذاً فنحن مطالبون بمعيار المحبة الحقيقي، وهو الاتباع {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. وليس هذا اتهاماً لأحد، بل دعوة صادقة إلى التمييز بين الحب العاطفي والحب التعبُّدي المبني على الاتباع. وحسن النية في ذلك لا يكفي، بل العمل والاتباع هو الذي يترجم صدق الادعاء، ويكشف صحة أو زيف الانتماء، والله الموفق.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved