Saturday 8th May,200411545العددالسبت 19 ,ربيع الاول 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

خطوات إستراتيجية.. خطوات إستراتيجية..
عبدالعزيز السماري

منذ فترة غير قصيرة، توالت التأكيدات الرسمية والدراسات والتوصيات من مجلس الشورى السعودي عن النية لوضع إستراتجية لمحاربة الفساد،
ولتنظيم وحماية المال العام ومحاربة الروتين والبيروقراطية والفساد المالي، وهي بلا شك خطوات جديرة بالإشادة، وقد تعني أن إستراتيجية الحفاظ على المكتسبات انتقلت إلى مراحل أكثر تطوراً ونفعاً في سبيل المحافظة على الاستقرار في الوطن، وأن المجتمع يتجه إلى هدف الأمن الشامل إذا تم الانتقال فعلياً من مرحلة انتهت فعالية خطابها الوعظي ضد الفساد والبيروقراطية إلى مرحلة أكثر شفافية، يحكم تجاوزاتها القانون والقضاء.
والجدير بالذكر أن ظواهر الفساد لا تقتصر على دول العالم الثالث، وتحدث في كثير من أنظمة الإدارة العامة والاقتصاديات الحديثة، حيث نجد دولاً لها باع طويل في سيادة القانون وتنطلق من مبادئ العدالة تعاني من تفشي ظاهرة الفساد الإداري بل إنها أصبحت في بعض المجتمعات طريقةً للحياة وأسلوباً للعيش، ولم تقتصر على المفهوم التقليدي له، والمتمثل في الحصول على مكاسب وأرباح مالية عبر طرق غير شرعية، بل تعداه ليشمل اتخاذ قرارات ليست في مصلحة الجمهور ولا تنسجم مع أمنه و استقرار حياته، ولكن تصب في مصلحة مؤسسات خاصة، قد تكون تجارية أو وهمية، ولكن ذلك لم يمنع تلك الدول من تقنين إستراتيجيات هدفها تعقب و كشف أوجه الفساد في المجتمع.
وإذا حاولنا البحث عن جذور الفساد و أوجهه المتعددة في الشرق العربي، ومن أي الأبواب دخل إلى واقعنا في الشرق، فعلينا رفع معدلات الشفافية، والحوار بصوت مسموع للجميع، وأن نتساءل عن جهة قدومه، وهل جاء من باب الاستعمار إلى شرقنا العربي، أم أنه نبتة شرقية تعشق الصحراء ونسيم الليالي العربية، أم أن التاريخ الإسلامي الحافل بالصراعات والانشقاقات أحد أهم مصادره.
فقد اعتاد العرب إدانة أنفسهم كلما جاء ذكر الخلافة الراشدة أو عندما يتحدث مؤرخوهم عن إضافة خليفة خامس لفترة الرشد و النزاهة في صدر تاريخ المسلمين.
وإذا قرأنا سير الخلفاء الراشدين بتمعن أدركنا أنهم ( تخلقوا ) بمفاهيم نقية تدعو للصلاح في معاملة الناس، والنزاهة في المعاملات المالية والقضائية، وهذا لا يعني أن الآخرين كانوا غير ذلك، ولكن ربما اختلفت معايير وأدبيات الصلاح وأخلاقه على مر العصور بعد ذلك، أو ربما اختلفت فلسفة منظري ومثقفي المجتمع باختلاف الواقع السياسي و الاجتماعي آنذاك، فالتأويل والتبرير للسلوك و التصرفات المخالفة لما تم تطبيقه في القرن الأول، والاحتكاك الحضاري بالأمم المجاورة، ونقل الأدبيات السلطانية، بالإضافة إلى الحرص على المحافظة على الواقع كانت عناصر في غاية الأهمية لإنتاج مفاهيم أخلاقية جديدة، ومختلفة نوعاً ما عن تلك التي حكمت العصور الأولى..، التي اختزلت المطالبة بها بمرور الزمن في انتظار الوعد الرباني الخاص بمقدم المهدي المنتظر في آخر الزمان،.. والموعود بحتمية إعادة الحكم الراشد بأخلاق النبوة إلى الحياة الدنيا.
استغل عدد من الرموز قضية المهدي، فتكونت دول وظهرت شخصيات على مسرح التاريخ، وقامت دعوات، وكان كل يدعي أن آخر الزمان المقصود في الكلام عنه هو مكانه الذي كثر فيه الظلم، فاستغلها الفاطميون وأقاموا دولتهم أولاً بالمغرب، ثم انتقلت إلى مصر واتسع نطاقها، واستغلها (ابن تومرت) فأسس دولة الموحدين، وقيل إن المهدي صاحب ثورة السودان كان أتباعه يطلقون عليه المهدي المنتظر.
وكان من العادة في زمن الصفوية في فارس إعداد فرسين مسرجين دائمًا في القصر لاستقبال المهدي وعيسى عليهما السلام، لكن تلك الأحداث والثورات التي تصنع مهديها المنتظر من أجل شرعية التغيير سرعان ما تكشف عن أنيابها وأخلاقها الجديدة عندما تنفرد بالسلطة، ثم تفرضها على الجميع قسراً.
وهذه المفاهيم القديمة نسبياً اكتسبت صفات متغيرة في العصر الحديث، واهتمت بمظاهر قد تخلو أحياناً من مضمون أخلاق العصور الأولى، فالشكل، وأداء الواجبات و ترديد بعض العبارات في المكاتب وردهات العمل ومحاولة الظهور بهيئة المهدي المنتظر في الحياة الإدارية، قد يجعل مهمة ذلك الشخص في تسلق سلم المجد أسهل بكثير من غيره مماً لا يحسنون أداءها بشكل ملحوظ،ولكن يتطلع إلى ذلك المجد من خلال العمل الجاد والإنتاج.
وسلطة الأخلاق فضاء واسع يتحرك فيه الجميع حسب مرجعيات وأيديولوجيات مختلفة،ولا تحده حدود مقننة، ويستخدمه البعض لكسب المصداقية والثقة، أو الحصانة ضد رقابة المعاملات و أساليب الإدارة الحديثة، ولا تنجح عادة الطرق المتداولة في العرف العربي في جعل الأخلاق خطوط مقاومة اجتماعية ضد الفساد أو الإرهاب أو العنصرية والإقليمية في منع حدوثها أو انتشارها وتقبلها في الثقافة الشعبية، إنما قد يشكل ذلك العرف الأخلاقي في أحيان كثيرة غطاءً ساتراً للتجاوزات الإدارية، أو مفاهيم مطلقة تبدو كحجاب يتحرك من وراءه الخارجين عن مبادئ الشريعة و مقاصدها النبيلة، ويستغله البعض للفساد بلا رقيب، أو الخروج و مهاجمة المجتمع تحت مسميات الانتصار للفضيلة، وبقدر ما في ذلك الرصيد التراثي من إيجابيات، يظل إطلاقه كسلطة بلا تقنين في المجتمع سلاحاً خفياً تتصارع من خلاله الفئات المتنافسة في المجتمع.
ولا يمكن القضاء على ظاهرة الفساد والبيروقراطية واستغلال المظاهر الاجتماعية ضد مصلحة الوطن والمجتمع إلا من خلال تطبيق القانون وإعمال القضاء في جميع المعاملات، وقد أثبتت التجارب في العالم الحديث بأن الاعتماد على إجراءات التحقيق المباشر كردة فعل لشكوى المتضررين من الفساد أو الاستغلال أو إهدار المال العام لم تعد كافية، لذا يتطلب الأمر الاعتماد على مبدأ الوقاية العامة من خلال جعل نشاطات وفعاليات وأعمال المؤسسات العامة والخاصة مكشوفة وخاضعة للرقابة والمساءلة العامة.
ولست في هذه المقالة في صدد إثبات أو نفي قدوم المهدي المنتظر، ومهما يكن من شيء فإن ظهوره ليس مستحيلاً عقلاً، وإن رأى ابن خلدون عدم ظهوره، ورأى آخرون إثبات قدومه في آخر الزمان كما ورد في الحديث الشريف، ولكننا في وضع يحثنا على تأكيد الإشادة مرة أخرى بالإشارات الواردة عن بدء دخول مرحلة جديدة قد تكون ملامحها العامة أخلاق الهدي المحمدي، لكن مضمونها إستراتيجية تشريعات وأحكام، تعمل ضد أخطار الفساد واستغلال المسؤولية، وتقي العباد من أمراض الشلل البيروقراطي والكراهية الإقليمية والطائفية، وفي نفس الاتجاه تمنع تسلل ضعاف النفوس من نافذة استغلال الأخلاق المؤجلة تطبيقاتها إلى كراسي الإدارة والمسؤولية، ثم الادعاء بإلهام (المهدي) المنتظر في تصريف شؤون الإدارة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved