السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد:
قبل سنوات كنت قد هممت أن أعمل تحقيقاً لجريدة الجزيرة، يتحدث عن المشاعر الإنسانية التي تنتاب الشخص عندما يكون أباً لأول مرة، وقبل ذلك المشاعر التي تنتابه وزوجته في غرفة التوليد، ولكن مشاغل الحياة منعتني من ذلك، خاصة أنني في تلك الأيام لم أكن قد جربت الزواج أو عرفت معنى الأبوة، وبعد أشهر من زواجي طرأت الفكرة في رأسي مجدداً، ولكن التسويف وما أدراك ما التسويف وأد الفكرة قبل أن ترى النور، فظلت الفكرة تدور في رأسي من وقتٍ لآخر، إلى أن رزقت قبل أسابيع قليلة بمولودة، حيث ألغيت فكرة إجراء هذا التحقيق نهائياً، فقد جعلتني ابنتي وغاليتي وصايف أجزم أن هذه المشاعر الإنسانية لا يمكن أن توصف، مهما أوتي الشخص من بلاغةٍ وفصاحة في القول، بل ولو حاول أن يقول، فإنه سيعجز عن أن يقول ولوجزءاً يسيراً مما يختلج في صدره، فابنتي وصايف جعلتني عاجزاً عن النطق بكلمة واحدة، عما يحمله لها قلبي من حبٍ أبوي فطري، ولأن لساني عجز عن التعبير فقد خشيت أن تعجز يداي عن حملها، فلم أتجرأ على فعل ذلك إلا بعد أيامٍ من مولدها، وعندما حملتها بين ذراعي المرتجفتين وقبلتها بشفتي الوجلتين، أدركت كم كان آباؤنا الأولون على حق، حينما كانوا يقولون ويرددون بلهجتهم الدارجة والمحببة مقولة (الواحد ما يعرف قدر وقيمة والديه إلا إذا صار أبو) حيث أدركت صدق العبارة، وأنها خرجت من فم لا ينطق إلا بالجواهر، فقد كنت أعتقد أن الواجب على الابن أن يعرف قدرهما قبل ذلك بكثير، ولكن في يوم الأحد الموافق 14-2-1425هـ أدركت كم كنت
كما فتحتِ على قلبي، ففرحتي بك جعلتني أعتبر نفسي مديناً لوالدي طول عمري، فقد سعدوا بي كما سعدت بك، وفرحوا بي كما فرحت بك، فألا يستحقون حبي وبري؟!
طفلتي وصايف عندما رأيت وجهكِ الملائكي، تذكرت حال بعض الحمقى من الرجال، الذين يطلّق الواحد منهم زوجته وهي في غرفة التوليد، أو يغضب منها ليس لذنب اقترفته المسكينة، إلا أنها ولدت له بنتاً، وكان الأولى به في هذه اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة، أن يتجرد من كل ملذاته وشهواته ورغباته، ويحمد الله ويشكره على أن وهب له هذه الطفلة، التي غيره يتمناها وخسر في سبيل البحث عنها الغالي والنفيس، لكي تؤنس وحدته بضحكاتها وحركاتها.
كما جعلتني يا قلب والدك النابض وصايف، أنظر بتعجب واستغراب إلى حال بعض الرجال ممن تخطى حاجز الشباب، وهو لا يزال يرفض الزواج دون سبب يذكر، وكذلك جعلتني أنظر بعطفٍ إلى حال بعض الفتيات اللاتي يرفضن الزواج بدعوى إكمال الدراسة، ولقد وددت أن أصرخ في أذن كل واحدة منهن قبل أن يفوتها القطار، وأقول لها إياك ثم إياك أن تخسري أن تكوني أماً، من أجل شهادة دراسية قد توصلكِ إلى أن تكوني عانسة، وفي الوقت نفسه عاطلة في منزل والدك، فالأمومة تستحق ان تخسر الواحدة في سبيلها الكثير، ولكن الكثير لا يستحق أن تكسبيه في سبيل خسارة الأمومة.
ولقد جعلتني يا ابنتي وصايف أعجب من
قساوة قلب البعض من المتزوجين حديثاً، عندما يسمح لزوجته أن تتناول حبوب منع الحمل دون سبب طبي ظاهر، ليحرم نفسه وزوجته من أجمل إحساس، ثم كيف لزوجة عاقلة تطاوع زوجها وتشاركه في هذه الجريمة؟! ثم ما هو الهدف من زواجهما إن كان بلا ثمرة؟!
رسالة حب
بآلام الولادة وحدها تستحق الأم أن تنال شرف البر من أولادها وبناتها، وبآلام الولادة وحدها تجعل الابن عاجزاً عن أن يؤدي شيئاً يسيراً من حق والدته، وإن طاف بها العالم وهي على كتفيه، فلكن مني يا أمهات العالم جميعاً ألف تحية وتحية.
رسالة اعتذار
في أحد الأيام رأيته يبكي بحرقة في المستشفى، بعد أن أخبروه أن زوجته قد ماتت وهي تلد، وقد استكثرت عليه أن يبكي أمام الناس بهذه الطريقة ،ولكن بعد أن ذقت مرارة الانتظار إلى أن خرجت زوجتي من غرفة التوليد بالسلامة، أجد نفسي مجبراً على الاعتذار لذلك الإنسان النبيل، الذي لكم وددت الآن أن أتشرف بمعرفته، لكي أطلب منه السماح فقد كنت قاسياً عندما استكثرت عليه دموعه الحارة،
والواجب كان يقتضي مني أن أقف احتراماً وإجلالاً لها، فليس أقسى على الإنسان من أن يفقد زوجته التي كانت قبل سويعات بجانبه ملء السمع والبصر، وفي لحظات يجد نفسه قد عاد وحيداً إلى داره التي فقدت الأنس وحلت بها الوحشة.
علي بن زيد القرون/حوطة بني تميم |