اطلعت على بعض الصحف اليومية التي تناولت الإبل وما يستفاد منها بشيء من التفصيل، واستندت إلى بعض الدراسات والتجارب التي أثبتت نتائجها، وذلك بمناسبة الندوة التي رعتها وزارة الزراعة.
وحيث أثبتت التجارب أن حليب الإبل فيه شفاء بإرادة الله تعالى، عليه نقول: سبقهم على ذلك البدوي صاحب الإبل بفطرته التي قادته إلى ذلك، ولعل بعضهم خص بول (البكرة) بالتفضيل على غيره، وهي التي لم يعلوها الفحل من قبل. وهذا لا يعني إلغاء غيرها، بل خصه لأنه أقل مرارة وأكثر قابلية للشرب لاسيما في فصل الربيع.
وفي عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبي - صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم- فقال: (لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها). ففعلوا، فلما صحوا ... إلخ.
والإبل من مخلوقات الله العظمى التي خصها البارئ بالذكر للتفكير والتدبر والتأمل، فقال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية: 17).
والإبل لها صفات كثيرة تميزها عن غيرها، وليس هذا مجال ذكرها، ولكن أخص الأنفة (محل الشاهد)، فهي تأنف أن تتعايش مع غيرها، لاسيما الأغنام، وهي دائماً تحب الحرية والتنقل من مكان إلى مكان بين الوهاد والنجاد، ولهذا قيل: سفينة الصحراء.
وهي لا (ترتع)؛ أي تركد وتستقر، إلا في الأرض (القفر)، وهي الأرض التي نباتها من مطره لم يسبقها عليه إلا الطير، وهي الأرض التي لم تطأها قدم. وكانت البادية تفخر بفوارسها، وأن أبلها ترعى القفر الذي غالباً ما يحميه الخوف؛ إذ يقع في منطقة محايدة بين القبائل نقطة تماس خطرة لا يصلها إلا الأقوى. وفي هذا أقوال وأفعال وشواهد كثيرة استندت إلى وقائع جرى بعضها مجرى الأمثال، ويطول بنا المقام لو أردنا ذكر بعض منها.
وهذه الإبل ترعى (تيهاً أو متيهه) حسب رغبتها، لا تصد ولا ترد عن (مشهاتها)، فهي مدللة تملي رغبتها على حماتها، وهم فرسانها، ولذلك علا شأنها وارتفع حتى أصبحت من الوجاهات التي لا تقدَّر بثمن.
وأكره ما تكره الإبل في الأرض رائحة الأغنام، ومتى ما شمت رائحتها في الأرض عافت الرعي فيها، ورفعت رؤوسها، وأصبحت (تصفق أو تصطفق)؛ أي تجول ولم تركد، وفهم صاحبها أن هذا المكان لا يناسبها، فربما كان مرعى أغنام، ويلزمه الرحيل والبحث عن مكان لا تصله الأغنام. وفي زمن مضى كان بعض المراعي محرمة على الشيا أو الشواوي؛ جمع شاوي، والمقصود بالشاوي راعي الغنم، والبدوي راعي الإبل. وهذه إضافة معلومة لمَن لا يعرفها أو يفرق بينهما.
ملحوظة: أوردت بعض المصطلحات والكلمات كما سمعتها محكية بلغة أهلها، وقد تختلف مع قواميس اللغة ومعاجمها أو مع بعض اللهجات الأخرى؛ لذا وجب التنويه.
الأغنام وتأثيرها على البيئة
الأغنام ثروة حيوانية هائلة تصب في اقتصاد الوطن، وهي توأم الزراعة من حيث امتلاك عامة الشعب لها، فهما مصدرا رزق شريحة كبيرة من الشعب التي قد تفقد الدعامات الوظيفية والموارد المالية الأخرى.
وكان في السابق قلَّ مَن يمتلك مائة رأس؛ نظراً لظروف الحياة، إلا أنه في السنوات الأخيرة صار التوجه إلى مشاريع الأغنام (تربية وتسمين) بفضل الله ثم بفضل ودعم الدولة، وأصبح بعض الأفراد يمتلك عشرات الآلاف من الأغنام، وبعد ارتفاع تكلفة الزراعة خرجت القطعان تزحف زحفاً على المراعي وتحصدها وتحرثها بأظلافها، حتى إن بعض المواقع أصبحت جرداء مما فيها من أعشاب وأشجار، وصارت أكياس الشعير وأسلاك ربط البرسيم والتبن تغطي المساحة المحيطة بها، يضاف إلى ذلك النافق الذي لم يُعْتَنَ به ويحرق؛ مما يضر بالصحة، ويجر العدوى إلى أغنام الآخرين.
فدمرت البيئة، وألحقت الضرر بالرياض والفياض. وأصدقكم القول: إنني خرجت يوماً بصحبة بعض الأصدقاء إلى البر في فصل الربيع، وحان وقت الصلاة، فنزلنا لأدائها في مكان منبسط، فوجدناه مكسواً بمخلفات الأغنام، ثم ركبنا وتجاوزناه إلى مكان آخر في اتجاه سيرنا، ونزلنا على بعد عشرة كم تقريباً، وإذا بالمشكلة تتكرر، واتجهنا إلى بطن الوادي مكان مجرى السيل فصلينا.
كلنا استغرب هذا الدمار للبيئة، وكيف ضاقت الأرض بما رحبت، وهذا مما أثار فضولنا وجعلنا نسأل مَن التقيناهم: ما السبب؟ قيل: كثرة الأغنام، لاسيما أغنام المشاريع، وضرب مثلاً: فلان لديه عشرة آلاف رأس، وفلان خمسة عشر، وفلان وفلان.. إلخ.
هذا الطوفان العارم، وهذه الجرافات التي سلبت قشرة الأرض بعد أن سعرت نباتها فأصبحت صفصفاً، أين حماية البيئة عنها؟
إذا ما علمنا أن طريقة الرعي طريقة جائرة خاطئة تتنافى مع مبدأ الفطرة، وتجعل هذه البهائم تقضي على الأشجار وقت نموها، في حين أن فترة نموها منحها الخالق قوة مقاومة، فتحول طعمها إلى طعم لا تستسيغه الرعية؛ مما يضمن لهذه الشجرة النمو والبقاء، وأضرب مثلاً حتى تتضح الصورة أكثر.
شجر الرمث وما شابهه في فصل القيظ يخضر وينمو ولا تأكله البهائم؛ لتغير طعمه إلى طعم غير مقبول، ولا تأكل منه إلا قليلاً بمقدار الملح في الطعام، إلا أن رعاة تلك المواشي أجبرت البهائم على رعيه بطريقة اعتمدوها مخالفة للفطرة، وهي أن يأخذ الراعي ربطة التبن ويفكها ثم يضعها فوق شجر الرمث وتحته؛ مما يجعل البهيمة تأكل التبن وما علق به، حتى لم يَبْقَ من الشجر إلا ما صلب عوده وغلظ وأصبح حطباً للنار. أليس هذا حرقاً للنباتات الطبيعية وحرباً على البيئة؟!
لا بد من دراسة ومعالجة هذه الظاهرة لتحقيق المصلحة العامة، وإلزام أصحاب المشاريع بالبقاء في مشاريعهم، أو تحديد أماكن لا يتجاوزها إلى غيرها، وحتى لا يسحق القوي الضعيف الذي كلُّ ما تحت يده فاغر فاه، ويصعب عليه الترحال والتنقل، ذلكم هو صاحب الشويهات التي هي مصدر رزقه ورزق أولاده.
وفي الختام، عوداً على بدء أتمنى أن يرى صاحب الإبل ذاته ولو لحين، ويعيش بعيداً بمعزل عن الأغنام، بحيث يخصص مواقع أو محميات لا تصلها الأغنام، وعلى الأقل لو محميات المقناص ومدتها كمرحلة أولى.
حسن الدعجاني |