الأمن في بلادنا ليس أمن سلطة حاكمة جاءت بالقهر والكره، بل هو أمن مجتمع عرف قيمة الراحة ولذة القرار إذ تتابعت الأجيال منذ 100 عام في متعة المذاق للأمان الوطني والأمن الاجتماعي، حيث المرجعية في الأساس بيعة وذمة يد الله فوقها، والحالة النفسية المتوارثة بين الأجيال في بؤرة وحدقة إبصارها؛ حجم ومساحة المعاناة التي سادت الحياة في شبه الجزيرة العربية على مدى قرون طويلة من التناحر والفرقة والتشرذم منذ أفول سلطة الخلافة والحكم منها إلى الشام والعراق ومصر والمغرب العربي وغيرها، لقد قامت دول الخلافة في تلك الأرض ومع مرور الزمن والبعد؛ تناسى المهاجرون في أراضي الأنهار والتواصل والانفتاح الحضاري مهبط الوحي أرضا وإنسانا، ولم يعد من ذكر أو ذكرى سوى أن في الأرض حرم الله يحج إليه ويزار، وشاء الله أن يتوالى على أرض الحرمين حكام لم يكن بوسعهم جلب الاستقرار أو الاستقلال رغم صدق وسلامة التوجه في الأصل والمعتقد بسبب ما تراكم من الجهل والأمية وغياب الدولة بكل مؤسساتها وممارساتها، بل لقد كان التذبذب في الولاء؛ الطالع والطابع المسيطر، وأصبح نفوذ الحكم الذي يأتي قويا إلى الحج هو الغالب، وهذا ما أوجد تخلخلا حتى بين السلطات التي حكمت أرض الحرمين، ولا يختلف الحال في بقية شبه الجزيرة، فقد كان الحال السياسي على نفس المنوال، وإن كان أشد في العزلة، ولم يكن بد والحال هذه من الصراع والقتال ونشوء زعامات تقليدية ليس لها في العرف السياسي كثير انتماء سوى الفردية الطاغية للغالبية منهم، وهذا ما قاد إلى الإرهاق والتعب من القتل والخوف والتشرذم والانعزال وطغيان لغة القتل والسلب والسلاح على لغة الاستقرار والتعليم وأساليب الحكم؛ وإن كنت لا أغفل فقه وواقع التاريخ النضالي ضد كل قوة أجنبية، ولم تكن محاولات حكم الخلافة المتنوع على مر العصور حتى الحكم العثماني - من واقع بعدها عن بلاد الحرمين - أكثر من مقادح زناد بين الحكام المحليين، حتى توالى القتل والاقتتال بين الأسر الحاكمة وطغيان العشائرية والقبلية وأمواج الفتي التي يغذيها الجهل وينميها التمرد.
ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يرحم أرض العرب والحرمين ويخلصها من حال الخوف والنسيان، فتداعت همم رجال أنكروا الذات، وعملوا على توحيد العرب في أرض العرب على أساس مختلف، عما كان يدور في خيالات الزعامات التي تعب الناس منها وأساليبها في الغارات والقتال دون هدف مصلحي جامع شامل للأمة، وكان القرار والاحتكام إلى سلطة ومرجعية عادلة يخضع لها العرب سكان أرض الحرمين، وبقية أطراف شبه الجزيرة، ولم يكن أعلى ولا أغلى من سلطة الاحتكام للدين؛ الذي كان أساس مبعثه وانتشاره من هذه الأرض، رسالة تمدن وحضارية تعامل وعبادة لرب العباد زالت بها الفوارق بين البشر، فكان أن اجتمع الناس على قيادة لجماهير الوعي والمسؤولية فكان اختيار لقب الإمامة هو الفيصل الذي أوجد القبول والخضوع، ولذا جاء منذ ثلاثة قرون لقب الإمام هو التحول الذي قاد كثيراً من الزعامات الواعية في الانضواء تحت لواء الإمامة، فأساس الإمامة الاقتداء والمتابعة، وهكذا جاء الحكم بقيادة إمام بعد إمام من محمد بن سعود إلى الإمام عبد العزيز، حتى نزل الملك عبد العزيز عند رغبة الشورى ومطلب الشعب، وتلقب بالملك، وباشر في ممارسة إدارة شئون الدولة ومؤسساتها التي وجدها في الحجاز متكاملة العدة والعدد، وبقي طوال حياته في أغلب الوقت في عاصمة الإسلام - مكة المكرمة؛ من أجل إدارة الدولة حتى توفاه الله في مدينة الطائف، بل إنه كلما غاب عنها جعل ابنه سعود نائبا له في العاصمة الإدارية - الرياض - وابنه فيصلا نائبا له في الحجاز،وهكذا ترسخ في وجداننا نحن أجيال النعم والاستقرار السياسي والاجتماعي خبر الرواية لا المعايشة؛ لما قام به الأجداد والآباء عن قيام الكيان السياسي الموحد لجل أرض شبه الجزيرة العربية المملكة العربية السعودية بسواعد أبناء هذا الكيان من كل الأطراف لا تمايز لأحد إلا بأسبقية الفضل والريادة والتضحية، وتبلورت قوة الاتحاد الوطني في الوقوف ضد من حاول التمرد والخروج.
من هنا فإن هاجس الحفاظ على الأمن بمفهومه الشامل هو الهم الشاغل للوطن جيلا بعد جيل، فإذا كانت عذابات وتضحيات الأجداد من الجوع والخوف من القتل والاقتتال، فإن اتساع مساحة الوطن التي يتمتع بالسير في أرجائها الأحفاد اليوم دون حاجة التذكر بالانتماء لأي بقعة، هي أوسع مجالا للتفكير في شأن ما بذل من جهود وتضحيات ودماء، ولا يفرط في هكذا إرث إلا ناقص العقل، وعديم الضمير والإحساس بالمسؤولية، دون شك فإن أي رغد أو رفاهية قد تحققت، فإن مردها إلى رحمة الله سبحانه، ثم القرار السياسي الذي سهل كل سبل التواصل والاتصال والنماء منذ 100 عام.
وانطلاقا من واجب الأمانة والمسؤولية الفكرية والوطنية أجد أن الإفصاح عن هواجس ذات صلة بالأمن الاجتماعي لا بد من طرحها من أجل البحث عن الأفضل لمصلحة الأهل والعشيرة في هذا الوطن شعبا وقادة وسراة، ومن أجل استمرارية الوفاء للبناة من الأجداد الذين جاهدوا حتى بقي لنا هذا الإرث العظيم والمسؤولية الكبرى في الأمانة على حراسة المقدسات للأمة وحمل الرسالة المحمدية في وطننا قبلة الإسلام والمسلمين ؟
ولعل المعنى بما يلي من أفكار وهواجس في المقام الأول وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز كرجل مثال لكل المواطنين ورجل حمل أمانة الأمن والمسئولية عنه في أجهزة الأمن ومجلس القوى العاملة :
* أهم مقومات الأمن هو ما شرع به الدين من الضرورات الخمس. الدين والمال والنفس والعقل والعرض، وهنا فأوجب الواجبات هو سهر كل رجال ونساء الوطن بصفة عامة، وأجهزة الأمن العلنية والسرية بصفة خاصة على الوقاية والحماية من كل شيء ينغص أو يعطل أو يمس أمن هذه الضرورات فهي الأساس لكل بناء ورقي، ولعل المجال الفكري هو المجال الأرحب ساحة ومساحة، في الحفاظ والعناية والرعاية تخطيطا ورؤية واستشرافا، وهنا فإن التعليم تربية وإعلاما هما رهان التنشئة والإعداد، ولهذا فإن بقاء المناهج وأساليب التدريس والوعظ والإرشاد على وضعها الحالي، أمر بالغ الخطورة وهي عناصر لمناط الحكم عليها نصا وقياسا استدلالا ودلالة، وهنا فإن مراجعة سريعة وعجلى لتصحيح ما أفسد عقول الأبناء والبنات من غلو وهتك في بناء لحمة المجتمع وشرعية الحكم، مما وجد في المناهج من ثقافة الكراهية ووصف ما يقوم من أنشطة وبرامج بل وأنظمة من الحكومة بأنها من أعمال الشرك أمر استراتيجي لا يحتمل التأجيل، فلم يعد في الإمكان تحمل المزيد من الانفلات الفكري المضر، ولعل المثال هو وصف المشاركة في أسابيع المرور والشجرة والصحة والسياحة والتأمين، وفي كتب التوحيد أمر بالغ السوء، لقد شق هذا المجتمع وأرهق مؤسسات الدولة وخلق ثقافة كراهية لنا في أقطار العالم الإسلامي والعربي، بل وفي وطننا بما شاع من التصنيف والإقصاء والإلغاء والاستعلاء والاستغناء.
* وما سبق لن يتأتى إلا من خلال اختيار العناصر الكفأة المؤهلة الماهرة الناصحة في الأجهزة الأمنية التي نقدر لها كل التقدير اجتهاداتها والنقلة النوعية الجميلة التي قادها وزير الداخلية في الارتقاء بمستويات الضباط إلى الدرجة الجامعية في كلية قوى الأمن الداخلي واستقطاب كوادر جامعية من مختلف التخصصات، وبعض التحسينات في الادعاء والتحقيق، ولا أريد إضافة أي شيء عن الولاء، ففي ظني أن من وجد الأمن على الضرورات الخمس لا ينقصه الولاء، بل هو وهي في غاية القمة من المسئولية الاجتماعية، وبكل الصدق والأمانة نحن نحتاج في أجهزة الأمن بشكل خاص وبقية أجهزة الدولة، إلى الأكفاء الصرحاء، وهذه الجرأة في الطرح والمعالجة الفكرية والصراحة وكشف مواطن الخلل والخطل هي في لغة العلم جودة شاملة تحقق هدف الجمع الجمعي شعبا وقيادة في الارتقاء بالعمل المنتج إلى مجالات الكسب والريادة.
* أمنية أن يباشر مجلس الأمن الوطني مهامه، ويكون سائس معلومات صناعة القرار،وهذا يأتي من خلال وعائيته للمعلومات التي تتجمع من سجل الوقوعات عن اتجاهات الرأي العام والجريمة والتوجهات الدولية المحيطة صديقة أو أخرى، ولعلي هنا استعيد ما قلته في حضرة الأمير نايف بن عبد العزيز في لقاء تم معه ضمن مجموعة من كتاب الرأي، قبل حوالي العامين فهو رجل يتفوق علينا في سعة مساحة وحجم الهم بالوطن أرضا وإنسانا ومعرفة ومعايشة لما هو أخطر وأعظم فأقول : رغم اختلاف مهمة ومهنية رجال ونساء الإعلام والفكر والرأي عن نظرائهم في المخابرات - المباحث في شأن وكيفية التعامل مع المعلومات خزنا وتوثيقا واسترجاعا ومعالجة وصناعة قرار، فإن اتفاق الهدف والرؤية أمر مشترك في نبل الغاية للوصول إلى المجال المستهدف ألا وهو خدمة الوطن والشعب - المجتمع - والحفاظ على أهم مكتسباتنا والمثل والقيم الاجتماعية العليا في ذروة سنامها هوية وسمة التوجه والاتجاه والسمعة والمكانة، إننا أرض قبلة الأمة وحفظة دين الإسلام والسلام، وهنا فلا بد من رصد وتحليل علمي دقيق للمعلومات التي تنشر وتذاع وفي المنتديات من قبل قادة الرأي، فما كان فيه صحة بوجود خلل أو خطأ أو خطر فإن مقتضى الواجب هو التعامل مع المعلومات بجدية وبمنظور علمي ثم أمني، بما يصلح ويقيم ما كان من خلل، وما كان من معلومات مغلوطة أو غير متكاملة، فإن البحث فيها سيقود إلى التصحيح والتبديل.
* ولا بد من تفعيل وتطوير مهام وممارسة مركز أبحاث الجريمة، في البحث والدراسة والكشف عن دوافع ومسببات الجريمة، ولا الظروف التي قادت إلى ذلك، ولا شك أن جريمة السرقة لن تقف وحدها بل ستجر إلى غيرها ولو عرفت الأسباب والدوافع لأمكن تلافيها أو على الأقل التخفيف منها وعلاج أسباب نشوئها.
* إن وجود المعلومات يقود إلى وجود بيانات والتعامل مع البيانات يقود إلى حصول معرفة يتبعها صناعة قرارات، وهذا ما يجب أن يكون بؤرة عمل أجهزة الرقابة الإدارية والأمنية والقوى العاملة، والأمن منتجه الاستقرار، وهذا يحتاج إلى توازن وموازنة في مجالات عديدة تبتعد عن الركود وتسير مع الحركة والتوازن يعطي حركة وتطورا وتطويرا.
(*) كاتب وباحث مستشار إعلامي
|