مع الهجمة الشرسة على الإسلام وتعاليمه، ومحاولة طعن المسلمين في أعزّ ما يملكون، وهو دينهم وعقيدتهم، بل تعدّى الأمر إلى التّطاول على القرآن الكريم، في الوسائل الإعلاميّة، التي تديرها أيدٍ معادية لله سبحانه ولشرعه الذي شرعه لعباده، وذلك ضمن الديموقراطية - بالمفهوم الغربيّ - المراد فرضها في ديار المسلمين مع القوّة الماديّة.. ومع حقد اليهود على الإسلام الذي لا يقبل الله من البشر ديناً سواه، فديننا غير دينهم.
ومن أهم ما ركزوا عليه قضيّة حجاب المرأة المسلمة، الذي وجد صدى لدى أصحاب الأهواء والمستغربين من أبناء المسلمين ثقافة أو دراسة.. فتحدّث من تحدّث، وركب راحلة الفُتْيَا، من لا يحسن القيادة، ولا يعرف الدليل الشرعيّ، ولا درس أحوال سلف هذه الأمة وعلمائها ، وما سار عليه الرّعيل الأول من أمة الإسلام. خلال القرون الثلاثة المفضّلة، ولا أدركوا المغزى الشرعيّ من حكمة الحجاب، ولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً... الخ) وقوله: (إن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء, فاتّقوا الله واتّقوا فتنة النساء).
ولما كانت الحكمة تقول: من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب)، لذا نرى بعض المتكلمين ينقلون أصداء أعداء الإسلام التي طُرِحَتْ أيّام حرب البلقان: بين الدولة العثمانية ودول الغرب.. بأن الحجاب من مخلّفات الدولة ولم يعرف في الإسلام من قبل فأسفرت تلك النساء عن وجوههن لهذا السبب، وبفتيا الأعداء.
ثم جاء الغزو إلى مصر وديار الشام، عندما عادت هدى شعرواي من أوروبا دارسة ومخطط لذلك بأن تستقبلها في ميناء الإسكندرية، مجموعة من النساء، في صفّ محجّبات، فتمرّ عليهنّ هدى شعرواي ، لتنزع الحجاب عنهن واحدة واحدة وترميه في الأرض: قائلة:لقد آن للمرأة المصرية ان تنزع حجاب التّخلف.
بل ليتهم حكمّوا عقولهم، إذا كانوا لايقرؤون النّصوص الشرعية، ولا آراء العلماء المعتبرين: عندما أفتى قاسم أمين في كتابه: تحرير المرأة بأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية حقاً، نصٍّ يبرّر استعمال الحجاب، على النحو الشائع عند المسلمين.. حيث رأى انه شرّ أنواع العبودية.. ولما كان المفتي يُعْرَفُ بشيخه ودليله: فإن شيخ قاسم أمين في هذا المفهوم صديقته الفتاة الفرنسية، التي أثّرتْ على فكره عندما كان في فرنسا.. مع ان المعروف لدى إخواننا المصريين، أن زوجته متحجّبة متستّرة، بل لم يرض لها ما كان يدعو إليه في قصة مشهورة ليس هذا مجال ذكرها.. ولعله يتاح لها وقت آخر.
وقد وقَفَتْ بجانب نشر أفكاره باحثة البادية.. ملك حفني ناصف.. المتوفاة عام 1337هـ، في كتابها النسائيات وأيدتها كما مالت لآراء قاسم أمين، ميّ زيادة المتوفاة بمصر عام 1360هـ فأبوها وأمها يعتنقان في النصرانية مذهبين متباينين الأب مارونيّ والأم أرثوذكسية.. فكانت الحملة الثانية مع دعايات الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية.
وهؤلاء الثلاث.. باحثة البادية، وميّ زيادة وهدى الشعراويّ، وما يحملن من أفكار غربيّة، ولدت في عام 1925م على أيديهن الحركة النسائية المصرية، وقد نبذت كما في دائرة المعارف: رئيسة هذه الحركة هدى شعراوي الحجاب عام 1926م. فكانت ممّنْ سنّ في المجتمع المصري المسلم: سنّة سيئة.. كما في الحديث الصحيح.
وقد أوضح الكاتب الإسلامي الشهير: أنور الجندي رحمه الله في كتابه، الذي أهداني نسخة منه عندما كنت أدرس في القاهرة، واسمه: رجال اختلف الرأي فيهم، ردوداً وأصداء على آراء قاسم أمين، ودعوته السيئة لتخليِّ المرأة المصرية عن الحجاب: باسم التّحرر، أو ادّعاء نبذ التخلف، وغير ذلك من مصطلحات كانت سبباً في بث روح الفساد في المجتمع المصريّ.. وفتح باب الشر على المرأة المسلمة.
فقد قالت الدكتورة بنت الشاطىء (عائشة عبدالرحمن) رحمها الله مستنكرة هذا العمل: إن المرأة دفعت ثمناً للتّطور، ويكفي ان أشير في إيجاز، إلى الخطأ الأكبر الذي شوّه نهضتنا، واعني به انحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي، ومن ثم ترفّعها عن التّفرغ لما تسّميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد، أما الأبناء فتركوهم للخدم (ص21).
كما نقل عن محمد فريد وجدي قوله: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثتْ تدهوراً مريعاً في الآداب العامّة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبيّة، وأصبحت ساحات المحاكم غاصّة بقضايا هتك الأعراض، وهروب الشّابات من دور أهلن. (ص30).
ولعلّ ممّن حول قاسم أمين وخاصّة زوجته لما لها من دور في لومه، بعدما كثرتْ الردّود عليه: في الصحف وفي الكتب، ولما رأى في زوجته التي تمسّكت بحجابها ليقول مدركاً غلطته، ولكن لا ينفع النّدم بعدما وقع الفأس في الرأس، حيث روى الجندي عنه هذا القول منسوباً لإحدى الصحف: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن، إلى اقتفاء أثر الترك، بل الأفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم، ومآدبهم وولائمهم، ولكنني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فقد تتبّعت خطوات النساء، في كثير من أحياء القاهرة، والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن، إذا خرجْن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال، بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي، واستنفر الناس إلى معارضتي، إنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل (ص29).
وقد كانت وفاته عام 1326هـز ففي هذا ردّ عمليّ على من يحبّ رفع الراية، أو يؤيد شيخ الأزهر في فتواه لوزير الداخلية الفرنسي، ودعوة إلى تحكيم شرع الله وردّ الأمر لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي العلم المعتبرين.
والمرأة عندنا - بحمد الله - في فترة قصيرة، ومع الحجاب والاحتشام نالت أعلى الشهادات، وبدأت كثير من بلدان المسلمين تتأسى بمنهج التعليم النسويّ عندنا، كما أحزن هذا، وعودة المرأة المسلمة في كل مكان، حتى في داخل أمريكا وبريطانيا، إلى الحجاب الإسلاميّ، بل في داخل دولة العدوّ في فلسطين، نجد الإقبال من النساء خاصّة، على الإسلام والاهتمام بالستر والحجاب، كما سوف أوضح هذا من مصادره في حديث قادم إن شاء الله.بل نرى أقلاماً نسائية في كل صحيفة نعتدّ فيها المرأة بمكانة الإسلام في هذا الدين، وما فرض فيه من حجاب وحقوق للمرأة، كما كتبت ذلك وعبّرت عنه هناء ردن العمري في (الجزيرة) يوم الاحد 28-2-1425هـ ص 43، تحت عنوان: مكانة المرأة في الإسلام، وإيمان البلوشي في (الفرقان) 17 محرم 1425هـ ص7 تحت عنوان (الحجاب عبادة).
وفيما نشر ب(الجزيرة) عن مقابلة مجموعة من الأكاديميات السعوديات - قبل عدة أيام - في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للوفد النسائي الأمريكي وما خرج عن هذا الوفد من انطباع جيّد جداً، عمّا وصلت إليه المرأة السعودية من مكانة ونضج، حيث اعجبهن قدرتهن وفهمهن العميق لرسالة المرأة: مشاركة في الطرح والحوار، مع الفكر الناضح، والاعتداد بالحجاب عن قناعة.
ولقد أبنْتُ في كتابي الذي صدر منذ أكثر من عشر سنوات: المرأة بين نور الإسلام وظلام الجاهلية، عن آراء نساء غربيّات: عمّا أحله الإسلام للمرأة من مكانة، فهي ملكة غير متوّجة لما تلقى من رعاية وحقوق بعكس المرأة في الغرب وأوردت ذلك بشواهده ومصادره.
من قصة الإفك:
ذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لسورة النّور، حديث عائشة المطوّل في قصة الأفك، أتى منه قولها رضي الله عنها: فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزاة بعد أن خرج سهمي، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل راجعاً ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرّحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار، قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني، فاحتملوا هودجي فرحّلوه على البعير الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذْ ذاك خفافاً،لم يثقلن ولم يفشهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام،فلم يستنكروا خفّة الهَودج حين رفعوه وحملوه فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش وكنت جارية حديثة السنّ.
فجئت منازلهم، وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيممّتُ منزلي الذي كنت فيه، وظننت ان القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ, فبينما أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّّل السّلمي، قد عرّس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرتَّ وجهي بجلبابي.
والله ماكلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة، غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطىء لي على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في الظهيرة.
فهلَكَ من هلَكَ في شأني، وكان الذي تولّى كبره: عبدالله بن أبيّ بن سلولَ.. فاشنكيت حين قدمنا المدينة شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وممّا يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم)؟ فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشرّ حتى خرجت بعدما نقهت (268:3-269).
|