في مثل هذا اليوم 17 ربيع الأول من عام 1309هـ، ولد شكري محمود القوتلي، الذي يُعد واحداً من أبرز دعاة الوحدة العربية في العصر الحديث، وأحد أبطال التحرر في العالم العربي، وقادة حركة المقاومة ضد الاستعمار البغيض، الذي جثم على صدر الأمة العربية دهراً طويلاً، وعاق بقيوده العالم العربي عن مواكبة ركب التقدم والرقي.
وظل شكري القوتلي رمزاً للمقاومة والصمود ضد المستعمر، ولم تُجْدِ معه كل محاولات التهديد والابتزاز، ولم يوهن السجن من عزيمته، ولم ترهبه ظلال المشنقة التي لاحت أمام ناظريه ثلاث مرات في حياته المليئة بالنضال والكفاح، حتى تحقق حلمه الكبير، ونالت سوريا استقلالها، وأصبح القوتلي أول زعيم وطني تولى رئاسة الجمهورية السورية.
القوتلي ولمُّ الشمل العربي
وفي عام (1356هـ- 1937م) ذهب القوتلي لأداء فريضة الحج، فعقد مع الملك (عبد العزيز بن سعود) - طيب الله ثراه-، ملك المملكة العربية السعودية، اتفاقاً لتسيير خط السكك الحديدية من الحجاز إلى دمشق إلى المدينة المنورة.
وبدأ الفرنسيون يضيقون بسياسة القوتلي تجاه لمِّ الشمل العربي، وميله العلني إلى الوحدة العربية.
وراح القوتلي ينادي بالاستقلال، بجلاء فرنسا عن سوريا، وسافر إلى أوروبا ليشرح قضية بلاده ويستجلب لها المؤيدين، حتى صار الإجماع على زعامته منقطع النظير، وهو ما جعل الفرنسيين يخشون الإقدام على أي إجراء ضده، فعمدوا إلى اللين والمناورة، وشعر القوتلي بذلك فأغلق باب التفاوض معهم.
ولجأ الفرنسيون إلى تعيين حكومة جديدة، برئاسة (خالد العظم)، وأدرك القوتلي أن وراء ذلك خطة مدبرة لإسكات الشعب حتى تنتهي الحرب العالمية الثانية، فتفرض سياستها، ووجودها بالحديد والنار.
وسافر القوتلي إلى كل من (السعودية والعراق) يستحث حكومتهما للاحتجاج على سياسة فرنسا ضد السوريين ومساعدة سوريا لنيل حريتها واستقلالها، وسعى في الوقت نفسه للوساطة بين الدولتين لإنهاء الخلافات الحدودية بينهما، حتى تمكن بعد جهد متواصل من إحلال الوئام والوفاق بينهما.
القوتلي رئيساً لسوريا
وفي (15 من شعبان 1362 هـ- 17 من أغسطس 1943م) انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية بالإجماع، وانتقلت سوريا إلى مرحلة جديدة نحو الحرية والاستقلال. وتوالت الاعترافات الدولية باستقلال سوريا من جميع دول العالم عدا فرنسا التي لم تعترف إلا بعد مُضي أكثر من ثلاث سنوات.
وعندما عقد مؤتمر الأقطاب الذي حضره روزفلت وستالين وتشرشل لإقرار ميثاق الأمم المتحدة في (28 من صفر 1364 - 11 من فبراير 1945م) لدعوة الدول للانضمام إلى هيئة الأمم، وجّهت الولايات المتحدة الدعوة إلى الدول لحضور الاجتماع، وأغفلت سوريا ولبنان بإيعاز من فرنسا، ولكن القوتلي بذل جهوداً كبيرة، حتى تم توجيه الدعوة إلى سوريا ولبنان لحضور المؤتمر، وانضمّا رسمياً إلى هيئة الأمم، وتمَّ الاعتراف بهما دولياً.
تأسيس جامعة الدول العربية
كذلك كان للقوتلي دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية منذ أن بدأت المشاورات الخاصة لتكوين الجامعة في الإسكندرية في (17 من شوال 1362 هـ- 16 من أكتوبر 1943م) وحتى عقد ميثاقها في (20 من شوال 1363 هـ- 7 من أكتوبر 1944م) ثم موافقة الدول العربية عليه في (8 من ربيع الآخر سنة 1364 هـ- 22 من مارس 1945م).
وكان القوتلي كذلك يستنفر الهمم لنصرة فلسطين وذلك عندما بدأت المؤامرات الأمريكية البريطانية لإقامة إسرائيل، وتحقيق حلم الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
جلاء الفرنسيين
سعى القوتلي لتحقيق استقلال سوريا وجلاء الفرنسيين عنها، لكن فرنسا كانت حريصة على بقاء سوريا مستعمرة لفرنسا، فشنت حرباً وحشية مدمرة راح ضحيتها عدد كبير من الأطفال والشيوخ والنساء، ولكن الشعب السوري الأعزل استبسل في سبيل عقيدته وحريته.
وبالرغم من مرض القوتلي، فانه انطلق يحث شعبه على الصمود والمقاومة ضد الاستعمار، حتى استطاع الشعب السوري أن يجبر الفرنسيين على الفرار بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة، وفوجئت بريطانيا بما حدث، وهالها أن ينتصر الشعب السوري على حليفتها، فزحف الجيش البريطاني بمصفحاته الضخمة على سوريا، وأصبحت سوريا تحارب بمفردها أعتى قوتين استعماريتين.
واتجهت سوريا إلى مجلس الأمن تطالب بانسحاب الجيوش البريطانية والفرنسية عن أراضيها، ولم تتوان في طلبها ذلك حتى تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سوريا في (15 من جمادى الأول 1365 هـ- 17 من إبريل 1946م)، وصار هذا اليوم - يوم الجلاء- عيداً قومياً لسوريا وزعيمها.
الوحدة مع مصر
عاد القوتلي بعد فشل الانقلابين في سوريا بقيادة حسني الزعيم، ليتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية مرة أخرى في (صفر 1375 هـ- سبتمبر 1955م)، وكان حلم الوحدة العربية لا يزال يراوده، حتى تحقق ذلك عند قيام الوحدة بين (مصر وسوريا) في عام 1958م، وتنازل القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عن الرئاسة، واستقبلت جماهير الشعبين في مصر وسوريا نبأ الوحدة بالفرحة الغامرة، ولكن هذه الوحدة لم تستمر كثيراً فقد انفصلت الدولتان في (ربيع الآخر 1381 هـ- سبتمبر 1961م).
وكان لفشل تجربة الوحدة أسوأ الأثر في حياة القوتلي فقد بدأت صحته تعتل، واستقر في بيروت حيث كان يعالج، فعاش فيها حتى تُوفي عام (1387 هـ- 1967م) ودُفن في دمشق.
|