ألم يأن الأوان بعد للضمير العالمي بأن ينتفض؟ لِما يمارسه الغرب على عالمنا العربي والإسلامي من دكتاتورية وطغيان، فالعنف لم يُولد إلا من رحم الاستبداد.. كما تعلمنا من التاريخ.. لقد عاشت اليابان قبل الحرب العالمية الثانية في ديكتاتورية بطش وإرهاب وقمع وجبروت، وسقطت الديكتاتورية بهزيمة اليابان، لكنها أنجبت أنقاض الديكتاتورية (الجيش الأحمر الياباني) الذي ملأ اليابان رعباً وقتلاً وسفكاً للدماء.
وفي إيطاليا قامت ديكتاتورية (موسوليني) الفاشية، التي كممت الأفواه، وسحقت المعارضة، وقطعت الألسنة، فسقطت الديكتاتورية التي كانت تقتل مخالفيها في الرأي وتتناقش بالرصاص وتحاور بالقنابل مع هزيمة إيطاليا المروّعة في الحرب العالمية الثانية، وخرجت من أنقاض ديكتاتوريتها (عصابة الألوية الحمراء).
وفي المانيا قامت الديكتاتورية النازية وأراد (هتلر) أن يجعل من كتابه (كفاحي) كتاباً مقدساً، وألقى بخصومه في الأفران الكهربائية ولكل من يقول له لا..وبعد أن تحولت ألمانيا إلى خراب ودمار وأكوام من التراب وسقطت الدكتاتورية، خرج من هذه الأنقاض، عصابات (بادر ماينهوف) وغيرها من العصابات التي كانت تخطف القضاة، وتغتال رجال الأعمال، وتقتل وتسفك الدماء.. (إنهم تلاميذ مدارس الدكتاتورية والطغيان الغربي..).
والتطرف والأصولية والفكر التكفيري والعنف والإرهاب.. وغيرها من المسميات في عالمنا العربي والإسلامي لم تنجبها الأنظمة العربية والإسلامية.. بل أنجبتها الدكتاتوريات الغربية وممارساتها على عالمنا العربي والإسلامي، ووليدة تراكمات لسنوات الذل والقهر التي عاشتها الشعوب العربية في السابق تحت سطوة الإمبريالية الغربية، ولذلك خرجت مثل تلك الحركات الفكرية منذ بادىء الأمر من أكثر الدول العربية معاناة تحت وطأة الاستعمار مثل (مصر والجزائر)، وما المنظمات الجهادية التي تقاوم في فلسطين المحتل إلا نتاج اغتصاب إسرائيل للأراضي والحقوق العربية ووضعها دولة فوق القانون، تمارس الإرهاب الحقيقي، على المدنيين الأبرياء وتقوم بالمجازر والتطهير العرقي والاغتيالات في وضح النهار.
وما المقاومة العراقية في العراق إلا نتاج الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، واحتلالهما لأرضه وثرواته و(هوسهما) بالبترول، وبجميع منابع النفط في العالم العربي والإسلامي.
وتذكرة للعالم.. لم ينطلق الجهاد في الشيشان وأفغانستان إلا لوجود الاحتلال الروسي هناك، وأمريكا كانت أول الداعمين لذلك الجهاد سراً وعلانية، فسراً كانت تمد المجاهدين في افغانستان بالمخابرات والسلاح وتدربهم.. وعلانية هي من اطلق في ذلك الوقت على (اسامة بن لادن) لقب البطل المجاهد وعلى أتباعه لقب المجاهدين والذي اصبح لدى امريكا الإرهابي والمطلوب الأول الآن.. وأتت بطالبان إلى الحكم وهي أول من اعترف بحكم طالبان وطلبت من باقي الدول الاعتراف بهم.
فهناك مجموعة من القيم ماتت بالفعل ويحتاج الضمير الإنساني إلى إعادة إحيائها من جديد، ومن أهم تلك القيم (قيم الديمقراطية.. وقيم العدالة، ورفض التعصب، ورفض منطق التعميم) فالتعميم آفة من آفات العقل البشري، فموقف الغرب من رجل واحد او من جماعة واحدة يعمم على المجتمع الذي ينتمون إليه بل وعلى العالم العربي والإسلامي بأسره..!
وفيما يتعلق بقيم (الديمقراطية) هناك اختلافات جذرية وجوهرية، بين الديمقراطية الحقيقية التي تثقّف بها العالم والمتعارف عليها، وبين ما تمارسه (القوى العظمى) في العالم على عالمنا العربي والإسلامي.. (الراعي الرسمي للسلام سابقاً.. وللديمقراطية حالياً في الشرق الأوسط).. فالديمقراطية داخل أي نظام تعني منح كافة عناصره فرصة التعبير والمشاركة والمساهمة في صنع القرار، وبشكل متساوٍ، فلا يأخذ أحد فرصة أفضل من الآخر، كما أن الديمقراطية لا تتعدى على سيادة الشعوب، ولا تمارس سياسة التهديد والوعيد والعقوبات مع الأنظمة الحاكمة، فهل تطبق (القوى العظمى)، المفاهيم والمبادىء الحقيقية والمتعارف عليها للديمقراطية على عالمنا العربي والإسلامي؟؟
إن القوى العظمى تُمارس ازدواجيات رهيبة ومخجلة، لا تتوانى لحظة عن ترديد اتهامات للعالم العربي بعدم الالتزام بالديمقراطية ولا تتوانى لحظة عن ترديد شعاراتها الدائمة عن الديمقراطية إلا أنها في العمق تمارس اعتى أنواع الدكتاتوريات.. فتمارس دكتاتورية الصوت الواحد.. لا ديمقراطية الاصوات المتعددة، ورفعت شعار (من ليس معي.. فهو ضدي)، وتمارس أبشع أنواع القهر بأكثر أنواع الأسلحة القتالية تقدماً وأقلها إنسانية وأكثرها وحشية.. لا ديمقراطية الدبلوماسية والتفاوض والحوار.
وتتبنى رؤية تعتمد على تقديس الذات وتحقير الآخر.. وعدم الاعتراف بأي إنجازات إنسانية أو حضارية للآخر فتصريحات المسؤولين الغربيين وأفعالهم مع عالمنا العربي والإسلامي تعكس أعلى درجات (الاحساس بالذات وذروة تحقير الآخر) والتي تترجم جيداً الآن على يد الجنود الأمريكيين والبريطانيين في معاملتهم للشعب العراقي والأسرى العراقيين، كما ترجمت سابقاً في الرد على تفجيرات 11 سبتمبر والانتقام من الأبرياء، بغزو افغانستان والعراق وقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، بل واستخدام أكثر الأسلحة المحرمة دولياً فتكاً فدمرت وسحقت قرى بكاملها في أفغانستان والعراق.. كما أطلقت يد إسرائيل للمضي قُدماً في سياسة المجازر والإبادة والاغتيالات والتطهير العرقي.
أما (قيم العدالة) اليوم، فبعد أن أصبحت الأمم المتحدة مؤسسة امريكية، وكذلك محكمة العدل الدولية، التي لم تحقق في المجازر والاغتيالات التي ينفذها شارون كل يوم في الفلسطينيين، وطرد شارون لوفود رسمية جاءت للأراضي الفلسطينية المحتلة من منظمات حقوق الإنسان في العالم، وبالرغم من إعلان تلك الوفود وعلى الملأ بأن ما حدث في جنين ونابلس من مجازر وما يحدث الآن من ممارسات إسرائيلية ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والتطهير العرقي.. قامت محكمة العدل الدولية بالتكتم الشديد على الأمر وبالتجاهل التام، وكأن شيئاً لم يكن، بينما تجرأت محكمة العدل الدولية الآن في أن توجّه اتهاماً للحكومة السودانية لكونها (عربية ومسلمة) بأنها قامت بتطهير عرقي في إقليم (دارفور).. و(بمحاولة) قتل زعيمها، (فالمحاولة) هنا (ترقى) لأن تصنف (جرائم حرب)، بينما تنفيذ الحكومة الإسرائيلية لسلسلة لا تنتهي من الاغتيالات، بالفعل، لقادة فلسطينيين، مع سابق إصرار وتصميم، وما تقوم به من إبادة للشعب الفلسطيني.. لا يرقى لمستوى (جرائم حرب) لدى محكمة العدل الدولية، ولا توجه لها إدانة، ولا تأتي على ذكرها حتى.. لا من قريب ولا من بعيد.
والعالم أجمع الآن في انتظار تحرك من (منظمات حقوق الإنسان) في العالم، ومن (محكمة العدل الدولية) في (لاهاي) لتوجيه إدانة ومحاكمة تليق بممارسات الجنود الأمريكيين والبريطانيين في حق الشعب العراقي والأسرى العراقيين، والتي عرضتها على الملأ أشهر الفضائيات والصحف والمجلات في العالم.. والتي لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل.. إنها ذروة الانحطاط في القيم الإنسانية، وذروة الغياب للضمير العالمي.
لقد قرأت كتاباً مؤخراً تحت عنوان (الإنسان وأزمة الضمير) للكاتب السعودي عبدالرحمن المشايخ، ويدور محتوى الكتاب حول رؤية ناقدة وثاقبة لغياب الضمير العالمي، وبلغة سلسة، وبمفردات مباشرة وعميقة في معناها ومغزاها، ومن أجمل ما كتبه من عبارات عن أزمة الضمير هو قوله: (تتجلى مظاهر هذه الأزمة في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الإعلامية التي أصبح فيها الإعلام أداة لتجميل القبيح، وتزييف الحقائق، ودعم الباطل..).
* عضو عامل هيئة الصحفيين السعوديين
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص ب 4584 جدة 21421/فاكس جدة: 026066701
|