كنتُ في هاجس اللقاء بتلك المرأة المتضوعة فاغية وأوركيد المتقدة غضا وشموع كأنني على موعد من تلك المواعيد العشقية التي نتألق شوقا وقلقا معها في انتظارها كالاستعداد لليوم الأول من المدرسة أو الذهاب في رحلة طيران لأول مرة فلا ندري ما الذي نأخذه معنا وما الذي نتركه، وبأي لهفة نقدم وبأي توجس نتحسب لوهج المفاجأة.
على طاولتي ورقة الدعوة للكتابة بمجلة الجزيرة الثقافية عن تلك النخلة السامقة التي اسمها خيرية السقاف. خلفي تاريخ مشترك من شرك الذاكرة مع هذه الكاتبة التي كانت من أوائل من خط طريق خروج نساء الجزيرة العربية في العصر الحديث للمملكة العربية السعودية على تقاليد السكوت وعادة الانزواء للدخول إلى ملكوت الكتابة بكل ما تحمله تلك التجربة من هيبة التجديد، نشوة الكفاح، رغوة المغامرة وأشواك الكبوات والمواكب معا. وأمامي أشواق المستقبل بكل ما تنبأ به من احتمالات جارحة وأحلام جامحة وبوارق أمل مهددة في كل رفة هدب بالانطفاء أو الاشتعال. فأي المداخل أتخير للإبحار بين شفى الصحراء وحافة الماء للكتابة عن د. خيرية السقاف. وأي زينة آخذ للكتابة عنها اقل من دقات القلب وحبر الروح.
وهل أكتب عن خيرية السقاف فيما نتقاسمه من قبس النورين أمها وأمي الشريفة نور العطاس والشريفة نور الهاشمي بما سكبته كل واحدة منهما في دمها ودمي من عشق ذرات رمل هذه البلاد ورذاذ بحرها. أو أكتب عما لم تبح به شهرزاد من سهد حواء وصبر حواء وصلابة حواء فيما تحملته خيرية شخصيا بقدها النحيل وهمتها الشاهقة في سبيل الكتابة عن شؤون وشجون الرجال والنساء على حد سواء. هل أكتب عن تلك الطفلة التي ذهبت بأول كتابتها بنفسها إلى البريد لترسلها من الرياض إلى جريدة البلاد وهي لم تغادر فصول المرحلة الابتدائية دون أن تضع طابع على الظرف. أو أكتب عن خيرية أم حيدر ومحمد ومعين وإباء تلك التي لا تكف عن الترقرق بين الأمومة والطفولة حتى في علاقتها بالطالبات والأصدقاء. هل أكتب عن خيرية ابنة مكة تلك التي أتقاسم معها الكثير من شجن تلك البطاح المقدسة المطرزة بعرق العمال والحجاج والمجاورين والسكان والزائرين والمعتمرين والعابرين من جبل قبيس إلى جبل غراب ومن باب العمرة إلى مسجد نمرة أو أكتب عن خيرية فيما نتقاسمه من تباريح حب الرياض من البطحا لمنفوحة ومن المرسلات إلى ما وراء النظيم. أم أعلن كيف تبادلنا المواقع وتقاسمنا ملامح الهوية والانتماء بين هوى نجد وهواء الحجاز.
أأكتب عن خيرية تلك التي رافقتها مسيرة مشتركة في العمل الأكاديمي بجامعة الملك سعود منذ أن كنت معيدة وكانت محاضرة وكذلك مشرفة على سكن الطالبات بكل حساسية وصعوبة المهمات التي تدرجت فيها إلى موقع عميدة لمركز الدراسات الجامعية للبنات.
تلك الجامعة التي كانت خيرية إحدى طالبات الدفعة الأولى فيها من اللواتي التحقن بالجامعة على مستوى المملكة في ظل نظام الانتساب. وقد كان وقتها هو النظام الوحيد المتاح لخريجات المدارس الثانوية التي لم يكن عددها يزيد على اصابع اليد. حيث كانت أسماء ذلك العدد القليل من البنات من خريجات الثانوية والملتحقات بالجامعة لا تلمع فقط في سماء المملكة من الجزيرة العربية بل تلمع في سماوات مدارس البنات للمراحل الابتدائية والمتوسطة فنرفع رؤوسنا من مقاعدنا المدرسية تلك ونتابع بدهشة حركة تلك النجوم على الأفق البعيد علنا في يوم قريب نلحق بها.
وكان من بين أسماء تلك النجمات اسم يبرق بسحر وهاج هو اسم خيرية السقاف وقد تجاوز في بريقه مدار المدرسة والجامعة وأخذ يسطع في فلك الكتابة وملكوتها الآخاذ.
على لوح ذلك القدر قدر الكتابة خُطّت أول حروف رحلة صداقة العمر بإذن الله بيني وبين سيدة القلم.
كانت أسرة خيرية قد جاءت من المنطقة الغربية واستوطنت الرياض وكانت أسرتي قد جاءت من المنطقة الوسطى وتحديدا من الرياض واستوطنت جدة فكانت بداية كتابتها في صحف الرياض (مجلة اليمامة وجريدة الرياض) وكانت بداية كتابتي في صحف جدة (جريدة عكاظ ومجلة اقرأ) ومع أن خيرية كانت قد بكرت وسبقتني وسبقت عدداً من جيل الكاتبات المعروفات اليوم باستثناء (فاتنة الحرف الدكتورة فاتنة أمين شاكر وأسماء قليلة أخرى) في الانتماء إلى فضاء الكتابة بشروطه العذبة المعذبة فإن خيرية لم تأخذ بنجومية الريادة ولم تحاول قط أن تستحوذ بها وحدها رغم حقها فيها. بل كانت تتمتع في عمرها المبكر ذلك بكرم وسخاء الكتاب الكبار. فلن أنسى الرسالة التي وصلتني منها لأول مرة منها بخطها الأنيق وكلماتها النقية نقاءً مطريا شفافا وقد كتبت بحبر فيروزي لتهنئتي بنجاحي الدراسي لذلك العام ولتحيي دخولي إلى عالم الحرف.
ولا زلت احتفظ في أول مكتبة كونتها في حياتي ببيت أهلي بجدة بواحد من أعز كنوز الذاكرة من تلك الرسائل الندية الصافية التي كانت خيرية ترد بها على رسائلي أو تكتب لي فيها بإخلاص المتبتل في حب الحرف بعض آرائها وبعض ملاحظاتها تشجيعا أو نقداً لما كنت أكتب في عمودي اليومي (قطرات) بجريدة عكاظ. وما زالت صورة فوتغرافية لخيرية السقاف بابتسامتها المشمسة ومحياها الحيي مع بطاقة دعوة إلى عرسها تزين ذلك الكنز وتستفز حبي واحترامي لتلك المرأة الشاسعة كلما شدني الحنين من يدي إلى تلك الأيام المفعمة بالبساطة والطموح وقوة الأخوة والوفاء في صداقة النساء. ولعطاء لا ينفذ أيتها المبدعة علما وأدباً وحياة.
|