إن الأمور بمعانيها وليست بمسمياتها ومبانيها. فمعاني النصوص، ومدلولات الوقائع، وجوهر الأحداث هي المعول عليه في تقدير الأمور وتحديد حقائقها، وليس مسمياتها. وآل الجميح، في المعنى والمبنى، أسرة كريمة كما الكثير من الأسر الكريمة في بلادنا أعزها الله، ولكن المعنى الذي يشرق به تاريخ هذه الأسرة، وتظهره سيرتها، وينضح به منهجها، والذي يدركه ويلمسه كل مَن يعايش مجتمعنا ويعيش فيه، إنما هو أعظم وأشمل وأكثر عمقاً من مجرد المفهوم الأسري المحدود.
إن أسرة آل الجميح تتجاوز معنى الأسرة لتكون مؤسسة وطنية، وكياناً راسخاً في هذا المجتمع الخير، متجذرة في تربته باسقة في جوه وسماه. إن هذه الأسرة مؤسسة وكيان اجتماعي قبل أن تكون بناءً تجارياً واقتصادياً وصناعياً. بناء وكيان يتجاوز الأشخاص الاعتبارية والطبيعية إلى القيم السامية والمثل العليا والتقاليد الشريفة، ويتجاوز المكان والأرقام والحسابات إلى الضمير الاجتماعي الجامع والعقل العام. لقد بنى هذا الكيان الجميحي أجيال من الرجال والنساء، وأجيال من الصبر والمثابرة، وأجيال من العقول النيرة والقلوب الدافئة والضمائر الحية. بنيت هذه المؤسسة على أسس راسخة من حسن النية وشريف القيم، ومحبة الخير، ورغبة عارمة في البناء، وأس ثابت من حسن المعاملة. وحسن المعاملة الذي أشير إليه هنا هو حزمة سامية من الخلق والمهارات والعادات التي تمثَّل بها كافة أفراد هذه الأسرة والعاملين معهم، نابعة من مكارم ديننا الحنيف، متمثلة في الأمانة في العمل، والصدق في القول، مع تمكن ومرونة في الأخذ والعطاء، وروح الوسطية والتفاهم الهادئ، والواقعية وروح المسؤولية والعمل الجماعي.
لقد التزمت هذه الأسرة في أعمالها وسيرتها وجميع شؤونها مقاييس ومعايير عالية، وسارت عليها يوماً بعد يوم، وسنة عقب أخرى، وعقداً تلو آخر، حتى صار هذا النهج جزءاً من الفطرة الأسرية لدى الصغير منهم والكبير. إن الدستور غير المكتوب الذي يحكم هذه الأسرة في سلوكها التجاري والاجتماعي والوطني لمدعاة للإعجاب والفخر، كما هو مدعاة للدرس والنظر والتحليل، وأولى أن يكون محلاً للامتثال والتشبه. وقد قادهم في ذلك بكل اقتدار وريادة رجالات عرفهم الكل بتعاملهم وأفعالهم قبل أقوالهم، على رأسهم كلٌّ من عبدالعزيز ومحمد أبناء عبدالله الجميح -رحمهما الله- ومحمد وعبدالرحمن وحمد أبناء عبدالعزيز الجميح حفظهما الله، وأبناؤهم والمهنيون والعاملون معهم في جميع مؤسساتهم وداراتهم التجارية والصناعية.
أكتب هذه السطور وقد أثارني خبر انتقال عملاق من عمالقة مجتمعنا من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية؛ فقد ألحف اللحد قبل أيام جثمان العم والوالد محمد العبدالله الجميح. لقد أثارت وفاة هذا الرجل العظيم في أذهاننا شجوناً كثيرة وعواطف عارمة كما هي الحال مع كل من عرف هذا الرجل وهذه الأسرة. لقد كان أبو عبدالله عملاقاً من عمالقة هذا المجتمع وهذا الوطن واقتصاده. لقد كان سامقاً في أبوته التي تجاوزت أبناءه وبناته من آل الجميح والعاملين في مؤسسات الجميح وشركاتهم إلى آلاف من العصاميين من أبناء هذا الوطن المعطاء. وقد ارتقى أبو عبدالله في اهتماماته متجاوزاً مصالح أسرته الاقتصادية والتجارية والاجتماعية إلى هموم المجتمع والوطن. لقد تسامى -رحمه الله- في نظراته وقيادته فتجاوز فيها التحيز الأسري والإقليمي إلى الرؤية المتوازنة والأفق الواسع البعيد.
إننا لا ننسى ولن يغيب عن نواظرنا تلك الدموع التي سكبها سيدي الوالد عثمان الصالح عندما وصله خبر وفاة صديقه الوفي وأخيه الغالي أبي عبدالله، ثم وهو في صحته العليلة يصر أن يقدم تعازيه ويشارك في قبول التعازي في منزل آل الجميح، ثم وهو ينقل في سيارة خاصة مهيئة لمثل حالته من مدينة سلطان بن عبدالعزيز - حفظه الله وأدام عزه وأنهضه بالعافية- للخدمات الإنسانية لمنزل آل الجميح العامر. إن أبناء الأسرتين وأصدقاءهما لا يستغربون ذلك منه -حفظه الله- فهم يعرفون وثيق الصلة وصادق المودة التي فتل حبلها الرجلان وشده رجالات الأسرتين، فامتدت رابطاً بين الأسرتين والحمولتين، فصارت مثالاً لكريم الخلق وشريف الخصال ووثيق الأخوة الإسلامية الحقة. لقد كانت علاقتهما التي بدأت على حياة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الجميح، وعلاقة الأعمام محمد وعبدالرحمن وحمد العبدالعزيز الجميح وأبنائهم، مائدة نتغذى منها كريم الخلق وسامي الخصال وشريف الفعال... كم من الذكريات تجيش بها الخواطر عن علاقة امتدت عقوداً من الزمن علية فوق الماديات والمصالح. إنني وإخوتي... لن ننسى الفقيد وهو يؤدي شعيرة مسائية من شعائر مكارمه يعمل فيها الهاتف اطمئناناً على هذا أو ذاك.. أو عتاباً لطيفاً على انقطاع طال من أحدهم... أو دعوة رقيقة لاجتماع أسري أو اجتماعي. إننا لا ننسى الفقيد وهو يلتمس من كل مَن يصافحه من قريب أو بعيد بتواضع الكبار عدم التغيب عن (مسائية الجميح)، ويقول بلهجته الشقراوية العذبة: (ترانا في انتظاركم لا تخلونا). تلك المسائية التي أصبحت معلماً من معالم حياة الرياض، وخميلة غناء في جغرافيته؛ حيث يجتمع الأحبة على عشاء وافر شهي وأحاديث في شريف الأمور وسامي الاهتمامات. لا ننسى ذلك الرجل، ولا ننسى مداومته المثيرة للدهشة والإعجاب على دوامه صباح مساء لعقود من الزمن لم يتخلَّ أو يتوانَ أو يتكاسلْ.
أعود إلى ما بدأتُ به سطوري هذه لأقول: إنه وقد غادرنا أبو عبدالله إلى جانب ربه الكريم الرحيم فقد خلفه عمالقة آخرون في هذه الأسرة المؤسسة، والمؤسسة الأسرة، الذين سوف يواصلون المسيرة بتوفيق الله ثم بعون بعضهم بعض وتكاتفهم والرجال الأكفاء العاملين في مؤسساتهم ومصانعهم على طريق الشهامة والمروءة والنفع العام في إطار أسري جماعي مشرف ينضوي تحت رايته هؤلاء الشباب والأبناء من آل الجميح؛ لتبقي لنا مؤسسة الجميح دوحة نتفيؤها ويتفيؤها خلق كثير. رحم الله الفقيد، وتغمده في فسيح جناته، وجمعنا به في عليين لدى رب كريم.
|