** خالد ( شاب بدوي) وإن أردت (قروي) عطفاً على قبيلته وعلى قريته.. لا يدري لماذا يناديه زملاؤه في المدينة بهذه الألقاب على الرغم من أنه يتحدث مثلهم ويسكن في قريته التي تشبه مدينتهم الصغيرة.. هذه..
اعتاد خالد وهو على مقاعد الثانوية مثل هذه التسميات ويبادل من يقولها له (معايراً) بمفردات شائكة تستفز من تُلقى عليه.. (!!).
** تخرَّج خالد ولم يأت بمجموع مميز.. ومرَّ عام وعامان فكتبه والده (بالبندق).. وقرر تزويجه ليخلصه من الفراغ القاتل..
تزوَّج خالد بفتاة من قريته دفعت من أجل أن تكون عروساً جميلة في تلك الليلة سبعة آلاف ريال وجاءتها المزيِّنة من المدينة الصغيرة المجاورة تحمل معها (الساونا والكريمات وستشوارات الكيرلي والأظافر المستعارة)
بدت العروس كامرأة مستعارة لا تناسب الحفل البسيط الذي استعد له خالد وأهله.
حين دخل عليها أحس أنه أبسط بكثير من أن تكون عروسه بكل هذه الأناقة.. أحس أنها ليست له هو.. وأنه لا يليق بها.. فتركها.. شام عنها.. نأى دون أن تتجرأ هي على سؤاله.. لاذت بالصمت وانتظرت مرَّ شهر وخالد يعارك قراراته.. وجاء موسم الحج..
حج خالد وترك عروسه..
وقال بينه وبين نفسه..
في الأيام المباركات سأقرر.. وسأرى أي حياة ستكون لي..
وأي طريق سأتخذ..
** عاد خالد بعد أسبوعين.. دخل باحة دارته المفروشة بتراب (الحصبا) وفي أقصى زواياها.. كانت هناك غرفتان.. لم يلق لهما بالاً.
** حين دخل..
قام له أبوه
وفزت له أمه..
وتثاقل إخوته الصغار..
إذ لم يكن خالد الذي ذهب هو خالد الذي عاد..
كانت لحيته كثة جداً..
حتى إن أمه قالت له..
من أين لك هذا..
وقال أبوه بعينين تتحركان كصقر يفتش وينقب ويستقرئ:
كيف حالك وانا ابوك..
** جلس وهو يحاول أن ينأى عن مواجهة الأسئلة يجرُّ ثوبه القصير ويضفيه على قدميه..
قال باقتضاب..
الحج كان ميسوراً ولله الحمد..
وقبل أن تواجهه الأسئلة المحتدمة..
قال: حظيت برفقة طيِّبة.. طوال الحج.. تعهدوني بالحديث والموعظة..
وقد عرفت أن الدنيا (ما تسوى) شيئاً.. وأن عذاب القبر والنار بانتظارنا..
وأن الحياة لهو وأن الزهد فيها هو الطريق إلى الجنة..
لقد عرفت أننا (ضايعين.. ضايعين)...
وأننا لو (استمرينا) على ما نحن فيه..
فنحن في هلاك.. وإلى هلاك..
انتفض الأب.. وأشار إلى أمه بأن تأخذ إخوته الصغار وتتركهم.
كان الأب عسكرياً متقاعداً عمل في جدة والرياض.. كان حازماً ورحيماً في آن.
يملك الآن معرض سيارات.
يدين الناس بالبيع والشراء.. أمره حلال كله..
- خالد يا ولدي..
تقبَّل الله حجك.. لكن وش هذا اللي حنا فيه..
شايفنا ما نصلي.. شايفنا نفعل الخبائث..
** اترك عنك هالعلوم وتعوذ من الشيطان..
قال خالد متهدج الصوت..
أقولك (حنا) ضايعين..
الجنة تبي.. تبي الشيء الكثير.. وحنا ما نعمل.. ما نعمل ضايعين.. ضايعين..
أنا خايف عليك أنت وأمي من النار.. من عذاب القبر..
- أقول عاد كلمة زيادة وأوريك الشغل..
- عندي كلام كثير ولا بد أن تسمعوه.. وإلا ليس لي جلوس معكم.. ليس لي جلوس مع تهاون وضياع في الدين..
- ما تبي التلفزيون أظنك
ما تبي أمك تروح الجيران
ما تبي خواتك يكلمون زميلاتهم بالمدرسة
ما تبي أهلك يروحون لسوق الجمعة..
ماهو الضلال الذي نحن عليه..
الحديث يطول وأنتم ضايعين والرفقة الطيِّبة التي أكرمني الله بها في الحج علَّمتني ما لم أعلم.. حذَّرتني من حياتكم ودنياكم.
قام أبو خالد وضرب خالد على وجهه وقال حجيت ودعينا لك بالقبول..
لكن تصفنا بالضالين الضائعين.. ونحن على ملة الإسلام..
وأخير منك ومن الذين معك.. فهذا ما لا أرضاه.. ولا أقبل به..
** سقط خالد مغشياً عليه..
وقال الطبيب إن خالد مصدوم نفسياً.. ويحتاج إلى معالجة نفسية طويلة.. فقد مرَّ بعدة مراحل متباينة وقد واجه ضغطاً نفسياً هائلاً.. لا بد أن يعود إليه توازنه مع الحياة.
** كانت زوجة خالد بأظافرها المستعارة.. تنتظره.. ما زال لديها أمل أن يتعافى خالد ويقرر أنها تليق به.. وأنه يليق بالحياة الآمنة الهادئة.
حكاية حدثت.. وتحدث كثيراً.. وكنا غير قادرين على الحكم والتحليل.. كنا جميعاً في حالة صمت إجبارية.. آن لها الآن أن تزول!!!
|