* الرياض - الجزيرة:
أكد معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء أن القرآن العظيم هو شرف الأمة الإسلامية ؛ مما يوجب علينا أن نحيط بما يكمل هذا الشرف العظيم من خلال تدبر أحكامه والالتزام بها.
جاء ذلك خلال لقاء معاليه مساء أمس الأول الأحد الثالث عشر من شهر ربيع الأول الجاري بالمشاركين في المسابقة المحلية على جائزة الأمير سلمان بن عبد العزيز لحفظ القرآن الكريم للبنين والبنات المقامة حالياً في فندق قصر الرياض بالرياض.
وقال معاليه: إننا نجتمع في هذه الليلة المباركة على مائدة الشرف مائدة القرآن الكريم مائدة كتاب الله تعالى الذي جعله الله تعالى شرف هذه الأمة وتوعد الأمة أن يسألهم عنه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} مفسراً معاليه ذلك بأنه شرف لك ولقومك وسوف تسألون عن هذا الشرف احفظتموه أم ضيعتموه، ويقول الله تعالى:(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، فيه شرفكم، مبيناً أن الشرف في لغة العرب من معانيه الذكر، والله تعالى امتن على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
واستطرد معاليه قائلاً: القرآن هو شرف هذه الأمة ولذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح الذي رواه الإمام عمر في صحيح البخاري:(إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)، فالكتاب شرف يرفع الله به أقواماً لانهم قرأوه وعملوا به وتدبروه وتأثروا بما فيه من الحكم والمواعظ والأمثال وترجموه حياة عملية أنقذهم الله بها من الظلمات إلى النور أخرجهم من الموت إلى الحياة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}.
كما أكد معاليه أن هذا القرآن نور يضيء الطريق، ويخرج الناس من ظلماء الجاهلية إلى نور الإيمان:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُر}، بهذا القرآن ولذلك قال الله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا}، وأن هذا القرآن الكريم سجل الأخلاق الفاضلة، قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وسئلت عائشة - رضي الله عنها - :( كيف كانت أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟ ، فقالت كان خلقه القرآن)، يعني يحل حلاله ويحرم حرامه ويطبق أخلاقه .. هكذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة من بعده حتى وإن كان في طبعهم شدة وإن كان في طباعهم قوة إلا أنهم إذا ذُكِّروا بالقرآن تذكروا.
واستشهد معاليه بقصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما أغضبه أحد زعماء الأعراب وهو عيينة ابن حصن يدخل عليه فيقول: هيه يا ابن الخطاب والله ما تحكم فينا بالعدل ولا تعطينا الجزل، فيغضب عمر لأنه يعرف ماضي هذا الرجل ويريد أن يؤدبه فيذكره الحر ابن قيس آية من كتاب الله، ويقول له: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين فما جاوزها عمر حين تلاها الحر، وكان عمر - رضي الله عنه - وقّافاً عند كتاب الله.
وبين معاليه أن القرآن الكريم هو العلم، ولذلك كان علماء الصحابة هم القراء ولما كثر القتل في العلماء في موقعة اليمامة وغيرها فزع الصحابة إلى أبي بكر ليجمع القرآن الكريم ويكتبه، لأن العلماء بدأوا يتناقصون، وكان العلماء في أواخر عصر الصحابة في البصرة وفي الكوفة يسمون القراء، لأنه ليس لدى الناس علم غير هذا القرآن، وكان الحديث لم يكتب بعد، وكانا الناس يفهمون القرآن فهماً جيداً يتدبرونه ويفهمونه ويعلمون تفسيره.
وفي السياق نفسه قال معاليه: إن القرآن مادة العلم الإسلامي إذا أضفنا إليه السنة أضفنا إليه النوع الثاني من التشريع الذي أكمله النبي صلى الله عليه وسلم ومثله معه فسر القرآن بالسنة وبيّنه وبيّن بعض الأحكام المجملة وبيّن أحكاماً أخرى لم ينص عليها القرآن الكريم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه ترك فينا شيئين إن تمسكنا بهما لن نضل، هذان الشيئان هما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أبان معاليه أن أشرف الناس هم العلماء، وإن قوام العلم القرآن الكريم، وأن أعظم مادة في العلم هي القرآن الكريم، وتساءل هل يتصور عالم في الشريعة ينسب إلى علم الشريعة وحظه في القرآن قليل، موضحاً أنه لا يتصور عالم شرعي زهد في كتاب الله تعالى وكان حظه فيه قليلاً، لأن أصل العلم الشرعي هو كتاب الله، هذا الأصل العظيم، هذا النور، مستشهداً بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.
وخاطب معاليه المتسابقين قائلاً: إن هذا القرآن العظيم الذي تتسابقون الآن في حفظه والذي ذكرت لكم أنه شرف الأمة يجب علينا أن نحيطه بما يكمل هذا الشرف العظيم، لأن القرآن لم ينزل للتلاوة فقط، مؤكداً أن التلاوة عبادة من العبادات المتعلقة بالقرآن الكريم، وأن هذه العبادة يؤديها اللسان لكن هناك عبادات أخرى تؤديها جوارح أخرى هي من الأهمية بمكان، من هذه العبادات عبادة التدبر، ويؤديها القلب، والله تعالى يقول:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
وأوضح الشيخ عبد الله المطلق أن الله ينعى على أناس قد أقفلت الذنوب قلوبهم فلا يستفيدون من تدبر القرآن، ويقول تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، ويقول الله فيهم:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، ويحثهم الله على سرعة العودة واحياء القلوب، فيقول:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ {16} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} مبيناً أن الذي يحيى الأرض بعد موتها بغيث السماء يحيي القلوب بعد موتها بغيث القرآن، هذا الغيث الذي جعله الله حياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }.
ومضى معاليه في شرح التعبد في القرآن الكريم مبيناً أن العبادة الثالثة متعلقة بهذا القرآن عبادة التأثر وتشارك فيها جميع الأعضاء، وقد ذكر الله ذلك في القرآن في قوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، تقشعر القلوب وتدمع العيون، وقال تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}، القرآن يزيدهم خشوعا، وقال تعالى:{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} يتأثرون بهذا القرآن العظيم فإذا تأثروا به عملوه وطبقوه وسارعوه، قال تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}.
وقال: انظروا وتأملوا في سيرة السلف الصالح إذا نزلت عليهم الآية زداتهم إيماناً، تدبروا وتأثروا وطبقوا، وقال تعالى {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وأكد معاليه بأن المؤمن يعمل بالقرآن ويسارع بالعمل، وأورد مثلاً على ذلك، (أن أبو بكر - رضي الله عنه - غضب من تصرف قريبه وابن خالته مسطح ابن أثاثه حين اتهم ابنة أبي بكر زوجة النبي صلى الله عليه وسلم زوراً وبطلاناً وحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه لكن أرحم الراحمين عاتب أبا بكر من فوق سبع سماوات فقال:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر - رضي الله عنه -: بلا والله إني أحب أن يغفر الله لي، فسارع وقال أعيدوا النفقة إلى مسطح.
وأورد معاليه مثلاً آخر ، لما نزل تحريم الخمر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}، قال الصحابة، انتهينا، انتهينا، لأنهم كانوا يطبقون ويجتهدون في التطبيق وكان الواحد منهم إذا سمع الآية من كتاب الله طبقها وتشرف بتطبيقها.
ومن العبادات المتعلقة بالقرآن الكريم التي ذكرها معاليه عبادة تعليم القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه)، وكان الصحابة يسمعون الآية من النبي صلى الله عليه وسلم ويعودون إلى بيوتهم ومجالسهم فيعلمونها من بعدهم، مستشهداً بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم للأشعريين حيث أن لهم جيرانا من الأعراب وهم لا يقومون بتعليمهم ولا أمرهم ولا نهيهم، فعاتبهم على المنبر، وجاء الأشعريون واعتذروا من النبي صلى الله عليه وسلم لتقصيرهم في هذه المهمة التي هي تعليم الجيران وتعليم من حولهم، مشيراً إلى أن تعليم القرآن عبادة يتقرب بها إلى الله وهي أيضاً تبليغ القرآن ولهذا ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:( بلِّغوا عني ولو آية).
واستطرد معاليه في شرح العبادات المتعلقة بالقرآن الكريم التي منها عبادة تفسير القرآن الكريم وتعليم تفسيره، مشيراً إلى أن السلف - رضي الله عنهم - من الصحابة ومن بعدهم إذا تعلموا شيئاً من القرآن اجتهدوا أن يتعلموا ما فيه من العلم والعمل يستفيدون التفسير ممن هو أعلم منهم، فكان ابن عباس - رضي الله عنه - هو المفسر الأول في الصحابة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال:( اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) والتأويل في الحديث بمعنى التفسير فكان الصحابة ومن بعدهم يفزعون إليه في تفسير آيات القرآن الكريم وتفسير القرآن من العبادات التي يتقرب بها إلى الله في هذا الكتاب العظيم.
وقال معاليه: ما أجمل أن ننتسب إلى القرآن الكريم وما أشرف أن نتعلق بهذا الشرف العظيم الذي نطلب من الله تعالى أن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن يكون هو سائقنا إلى الجنة وانتم تعلموا أن من الناس من يسوقه القرآن إلى الجنة فيكون هاديه ودليله ومنهم من يسوقه إلى النار.
واختتم معالي الشيخ عبد الله المطلق محاضرته سائلاً الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل كتابه الكريم حجة لنا وأن لا يجعله حجة علينا وأن يعيننا على قراءته وتدبره والعلم به وتفسيره وتبليغ الناس ما فيه من الهدى والنور.
|