*د. عبدالوهاب بن سعيد أبو داهش (*):
أولاً: الدور التنموي للقطاع البنكي
تعتبر البنوك المرآة التي تعكس مستوى قوة اقتصاد بلد ما. فالاقتصاديات القوية تتمتع ببنوك قوية قادرة على تلبية احتياجات النمو والاستثمار. فالبنوك تلعب دوراً مهماً كوسيط بين المودعين والمستثمرين عن طريق تحريك وضخ السيولة النقدية التي تحتاجها الدورة الاقتصادية لأية دولة. ويمكن تشبيه البنوك بالقلب في جسم الإنسان حيث يعمل على ضخ وتسييل الدم الحامل للأكسجين في أنسجة الجسم لبناء جسم صحي وسليم. وإذا سلمنا جدلاً أن ذلك التشبيه صحيح، فمن المنطق القول إننا جميعاً نحتاج إلى قلوب سليمة من أجل حياة أفضل.
ولعل ذلك التشبيه المجازي يسهل معرفة الدور الكبير والمهم الذي تلعبه البنوك المحلية في الاقتصاد الوطني. فالأداء القوي للبنوك السعودية يعكس متانة الاقتصاد السعودي، وبالتالي يعزز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي بهذا الاقتصاد. وبإلقاء نظرة على أداء البنوك المحلية، نجد أنها تأتي في مقدمة البنوك الأخرى ليس على المستوى الإقليمي فحسب، وإنما على المستوى الدولي أيضاً. فمؤشرات الأداء للبنوك السعودية تقترب من مؤشرات الأداء في الدول الصناعية، وليس الدول النامية. ومعدل كفاية رأس المال لدى البنوك المحلية يصل إلى حوالي 21%، وهو معدل يتجاوز ما يتطلبه بنك التسويات الدولية المحدد بـ 8% وتأتي أهمية ذلك المؤشر في كونه يعكس قدرة البنوك المحلية على تغطية القروض المتعثرة،التي قد تنتج أثناء الركود الاقتصادي أو ضعف الأداء الاقتصادي. لذا فإن كفاية رأس المال تشكل ضمانة قوية، وتعزز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي في قدرة الاقتصاد المحلي. لأنها تدل على أن البنوك المحلية قادرة على الإيفاء بالمتطلبات المالية للمشاريع القائمة في حال حدوث بطء في الاقتصاد، وبالتالي تعكس قدرة الدولة على التعامل مع الصدمات المالية والاقتصادية المفاجئة. ولعل الاقتصاد الياباني في وضعه الحالي يعتبر أفضل مثال على ذلك. ففي خلال عقد التسعينات شهدت اليابان كساداً اقتصادياً ثلاث مرات على الأقل، ومع ذلك بقيت البنوك اليابانية متماسكة وقادرة في نفس الوقت على تخفيف حدة الكساد عن طريق قدرتها على تحمل الكثير من الديون المتعثرة والتعامل معها بطريقة جنبت البلاد حدوث انهيار اقتصادي كالذي حصل في دول شرق أسيا الأخرى في عام 1997، حيث أدى انهيار البنوك فيها إلى انهيار اقتصاديات تلك الدول. ويقول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) إن بقاء البنوك الأمريكية قوية ومتينة أثناء تعرض البلاد للركود الاقتصادي سنة 2001م وعدم انهيار أي منها قد ساعد كثيراً في تجاوز البلاد الكساد وجنبها حدوث كساد ضاعف.
لقد لعبت البنوك المحلية في المملكة هي الأخرى دوراً جباراً منذ تعرضت الموازنة العامة للدولة لعجوزات متواصلة منذ 1983م، وتحملت ديوناً كثيرة في عقد الثمانينات من أجل تمويل المشاريع التحتية، مكملة بذلك دور الحكومة التنموي. ولعبت دوراً كبيراً في قيادة النمو خلال التسعينات. ويتوقع أن تلعب دوراً كبيراً في تمويل مشاريع البنية التحتية القادمة. وفي نفس الوقت، ورغم ضعفاً الضمانات، عملت البنوك على مقابلة احتياجات الأفراد التمويلية، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد انخفاضاً في الدخل الفردي، وذلك من أجل تسريع العملية التنموية. وكمثال واضح لعملية التسريع تلك، تطرح البنوك قروض تمويل المساكن. ففي خلال أسبوع واحد يمكن للفرد أن يحصل على مسكن، بينما لو انتظر تمويل صندوق التنمية العقاري فإن عليه انتظار حوالي 15 عاماً لبناء مسكن. ولعل المثال هذا يوجز مسافات كبيرة في عملية التنمية. فالفرق بين أسبوع واحد و15 سنة حوالي 5468 يوماً، وهو اختصار كبير وقفزة هائلة في العملية التنموية.
ورغم أن هناك نقداً يوجه للبنوك السعودية كالزعم بارتفاع الأرباح، وقصور في خدمة المجتمع، فإن مقارنة معدلات أداء ربحية البنوك السعودية بالبنوك الأجنبية تعتبر معقولة، وإن لم تكن متواضعة في بعض الأحيان. فالبنوك السعودية حققت معدل عائد على الأصول يبلغ تقريباً 2% في المتوسط، بينما يبلغ معدل العائد في حقوق المساهمين حوالي 18%. وتعود ربحية البنوك المحلية إلى عاملين هامين هما: قدرتها على حل مشكلة القروض المتراكمة منذ الثمانينات، كعامل أول. وانخفاض معدلات التكلفة، مما أدى إلى رفع العائد إلى متوسط الأصول، كعامل ثان من عوامل الربحية. من الواضح إذاً، أن سبب تلك الأرباح لا يعود إلى انعدام تكلفة الودائع تحت الطلب، كما يعتقد البعض. فالودائع تحت الطلب مكلفة للبنوك من حيث متابعتها المتمثلة في إصدار دفاتر شيكات مجانية، وإرسال كشوفات الحساب بالبريد، وتكلفة السحب من أجهزة الصرف الآلي عند استخدام جهاز بنك آخر، إضافة إلى تكلفة العاملين (أفراد وأجهزة) على فتح ومتابعة تلك الحسابات والتعامل معها. والحقيقة التي تغيب عن ذهن البعض أن تلك الودائع تقلل من قدرة البنوك على الإقراض لأنها تضعف قاعدة الإقراض المتاحة للبنوك، نظراً لأن تلك الودائع توضع عادة في حسابات جارية لفترات قصيرة، وهو الأمر الذي لا يتيح للبنوك فرصة إعادة إقراضها لفترات طويلة لخدمة الاستثمارات الوطنية طويلة المدى.
وفي خدمة المجتمع، تلعب البنوك أدواراً كبيرة في التبرع للجمعيات الخيرية، والمستشفيات، وذوي الإعاقة، وتساهم في دعم الأبحاث العلمية، ناهيك عن توظيفها لآلاف من الشباب السعودي. فنسبة السعودة تصل حوالي 80% في معظم البنوك. ناهيك عن أن البنوك تعتبر شخصيات اعتبارية، لا تمثل نفسها، فهي تمثل وترعى مصالح آلاف المساهمين وكذلك المودعين، من أجل حفظ ثرواتهم وثروات الاقتصاد الوطني.
ثانياً: القطاع البنكي والتحديات المستقبلية
تتمثل التحديات المستقبلية التي تواجه القطاع المصرفي في الانفتاح المتوقع جراء انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية، ودخول مصارف عالمية أخرى للسوق السعودية. وفي الوقت الحالي، لا يأتي القطاع البنكي ضمن القائمة السلبية التي يستثنى الاستثمار الأجنبي منها. فهو مفتوح للاستثمارات الأجنبية والمحلية. إلا أنه يخضع لأنظمة ولوائح مؤسسة النقد العربي السعودي، المخولة بإصدار تراخيص إنشاء البنوك التي ترغب العمل في المملكة. وتتبنى مؤسسة النقد سياسة تدريجية في فتح القطاع المصرفي أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية. فقد منحت مؤسسة النقد عدة تراخيص لإنشاء فروع لبنوك خليجية وأوروبية في السنتين الأخيرتين. وبشكل عام، لا تسمح أنظمة مؤسسة النقد العربي السعودي بتملك رأسمال أجنبي معظم أسهم البنوك المحلية، إلا أنه وفي ظل نظام الاستثمار الأجنبي الجديد، واستعدادات المملكة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فمن المتوقع أن تسمح مؤسسة النقد بإنشاء بنوك برأس مال أجنبي كامل في المملكة.
ويأتي التدرج في فتح القطاع المصرفي والبنكي أمام الاستثمارات الأجنبية، لتجنب الهزات التي ربما تحدث كما حصل في الأزمة المالية الآسيوية سنة 1997م، وتهيئة السوق المالية بشكل أفضل، لتكون أكثر جاذبية للاستثمارات المالية والبنكية، فالنظام المالي في انتظار بدء العمل بنظام سوق المال المحلي، والذي يسمح بإنشاء بنوك استثمارية، ووسطاء وصانعي سوق.
ومع اكتمال السوق المالية، من المتوقع أن يرتكز التنافس بين البنوك الموجودة محلياً الآن والبنوك الأجنبية في تقديم الخدمات الاستشارية، والوساطة والتجارة الإلكترونية. وسوف يكون التنافس حاداً في تمويل الاستثمارات طويلة المدى مع ما تتطلبه من استحداث وسائل تمويل جديدة كالتعامل بالسندات، وضمان المشروع non recourse، وبناء عليه، يبدو أن التنافس بين البنوك المحلية والبنوك العالمية لن يكون على قطاع الأفراد، بل على قطاع الشركات وطرق تمويلها. وهو الأمر الذي سيشجع اجتذاب الاستثمارات الأجنبية في القطاع المالي والبنكي، خصوصاً وأن متطلبات تمويل البنية التحتية المستقبلية للمملكة تحتاج إلى تسهيلات مالية كبيرة وطرق حديثة للتمويل.
ثالثاً: المعوقات التي تحد من فاعلية الاستثمارات في القطاع البنكي والمالي
يواجه القطاع البنكي نفس المعوقات التي يواجهها مجمل الاقتصاد كضعف الإطار التنظيمي وطول وتعدد الإجراءات والسياسات الحكومية. ولكنه يعتبر أكثر القطاعات الاقتصادية تأثراً بتلك المعوقات بسبب طبيعة متطلبات القطاع البنكي المتقدمة فنياً وتقنياً. ناهيك عن احتياجات القطاع البنكي للبيانات والمعلومات الاقتصادية والاجتماعية المفصلة والدقيقة عن شرائح الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. وذلك لتقليل نسبة المخاطر أمام توظيف أموال المودعين في القنوات الاستثمارية ذات المخاطر الأقل. فالأداء البنكي يتحسن بصورة كبيرة في البيئة الاستثمارية المناسبة، ويتأثر بسرعة عند ضعف أو تراجع البيئة الاستثمارية المواتية سواء كانت محلية، أو إقليمية، أو عالمية.
ويمكن حصر إجمالي المعوقات التي تواجه القطاعين المالي والبنكي في المملكة ويحد من جاذبية القطاع للمستثمر المحلي والأجنبي، في التالي:
- تأخر البدء بالعمل بنظام السوق المالية.
- تتسم التشريعات الحالية لحل المنازعات بين البنك والجهات المقترضة بتعددها وتعدد الجهات المسؤولة عنها، مع ضعف في الإطار التنظيمي وبطء في الإجراءات القانونية والتنفيذية، مما يجعلها غير كافية لحماية حقوق البنوك المحلية.
- أقر مجلس الشورى في 2003/2/24م نظام الرهن، ومنح النظام ديوان المظالم حق النظر في قضايا الرهن، مع جواز بيع الرهن في حالة عدم السداد. ويعد ذلك خطوة جيدة إلى الأمام، إلا أن قضايا الرهن من اختصاص المحاكم التجارية، وليست من اختصاص ديوان المظالم، ولكنها أحيلت إليه لعدم وجود نوع من تلك المحاكم. علاوة على ذلك، هناك مخاوف من استمرار طول إجراءات الترافع التي اتسم بها ديون المظالم، وضعفه في مجال القضايا التجارية والمالية.
- عدم وجود مؤسسات مالية مستقلة للتقييم والتصنيف الائتماني للبنوك المحلية، والشركات الكبيرة، لتقليل مخاطر الائتمان. إذ يوجد فقط قائمة سوداء باسماء غير الملتزمين بالسداد للقروض الشخصية وبطاقات الائتمان، وقروض الشركات، وتعرف بقائمة (C) للأفراد وقائمة (B) للشركات.
من الواضح أن المعوقات والمصاعب التي تواجه تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى المملكة، وخصوصاً القطاع البنكي هي هيكلية بالدرجة الأولى. فمجرد إنشاء هيئة عامة لترويج وتشجيع الاستثمار، مع تعديل طفيف لقوانين الاستثمارات الأجنبية، لا يفي بالغرض المطلوب. وأصبح من الضروري العمل على تنفيذ الإصلاحات النظامية والقانونية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية التي تبنتها الحكومة، وخصوصاً بعد سنة 1998م، بما فيها تطوير الأنظمة والقوانين الكفيلة بتوفير بيئة استثمارية ومصرفية مناسبة وملائمة لمتطلبات القرن الحادي والعشرين، حيث يتعين استحداث أنظمة جديدة، وتعديل الأنظمة القائمة لتلبي احتياجات المستثمرين، وتلبي احتياجات عملاء البنوك، وفي نفس الوقت تحمي مصالحها.
(*) اقتصادي سعودي
|