وفي ظل تعدد الأسباب والمفاهيم، والمواقف والمكاييل، والحياد والانحياز تبدت للمتابع عشرات الرؤى والتصورات والثغرات المعمقة للمعضلات، بحيث لم تكن إشكاليات الإرهاب وقفاً على التعريف، وإنما امتدت إلى المفاهيم والمواقف. وأزمة المصطلحات تتنازعها المدلولات اللغوية، والمقاصد الاصطلاحية، والأنساق المعرفية، والسياقات السياسية، فجذر (رهب) من حيث لغويته، يعني (التخويف والقمع). ومن حيث (إجراؤه) يعني مباشرة (الاعتداء): حسياً أو معنوياً. ومن حيث (الممارسة) يكون: (فردياً وجمعياً) و(دولياً). ومن حيث (الأهداف) يكون ضد أي كيان: سياسي أو ديني أو عرقي. ومن حيث (الدوافع) يكون بسبب اضطهاد أو اعتداء أو انحياز، أو هو مبدئي تمليه (أيديولوجية) معينة، وتفرضه نحلة متطرفة. ومن حيث (النتائج) يؤدي إلى الفوضى والاضطراب واختلال الأمن وإهلاك الحرث والنسل. وفي ضجة التنازع هناك مسلمات قد لا يختلف حولها أحد، تتمثل في: الدلالة لا في المفهوم، وفي الإجراء والمصدر والإعداد والأهداف والدوافع والنتائج. وحين نفرق بين (الدلالة) و(المفهوم) نضع في الاعتبار تعدد المفاهيم بتعدد المتلقين، وفي ضوء ذلك يتعذر علينا الاجتماع على تعريف جامع مانع، تلتقي حوله الأطراف. وحين يتعذر الاتفاق الكامل، يتعذر الحل الشامل. ولا يود مخلص أن ينفض سامر المؤتمرين بمعروف حول الإرهاب والموقف منه دون التوصل إلى حل وسط، تحكمه التنازلات الجزئية، للخروج ولو بأقل الفوائد. وبدهي أن القول بالخير المحض كالقول بالشر المحض. فالخيرية المطلقة لا مكان فيها للاختلاف، والبشرية المطلقة لا مكان فيها للاتفاق. والمشاهد العامة فيها اتفاق نسبي، واختلاف نسبي. لوجود خيرية نسبية وشرية نسبية، وواجب الخيرين توسيع قاعدة الخيرية، وتضييق جانب الشر، ليحصلوا على الحكم التغليبي، وينجوا من مضلات الفتن.
وفي خضم التنازع حول المصالح والمفاهيم دخلت كلمة (الإرهاب) أروقة الجمعيات والهيئات والمنظمات، واكتنفها المعنيون من كل جانب، مما حفز على تشكيل لجان تنقيب عن المعلومات وأخرى تحللها، وأعقب ذلك مؤتمرات تصدر التوصيات، وكل (حرب كونية) أو إقليمية تصفي ذيولها بممارسات، يسميها قوم إرهاباً، ويراها آخرون دفاعاً مشروعاً والناس أوزاع بين هذا وذاك، حتى لقد تحولت هذه الكلمة العصية من كلمة عابرة إلى مصطلح مراوغ. ومحاولة تحديد بداية تاريخية للإرهاب، يعني الحصرية المرفوضة: عقلاً وشرعاً وقانوناً. فالإرهاب بدأ مع بداية التجمع الإنساني، واستهله (قابيل) و(هابيل)، وقصة بسط اليد للقتل أو كفها، تعني أن هناك معتدياً ومعتدىًعليه. ولسنا بصدد تحديد البدايات، وإنما نحن بصدد تحديد المرحلة الواعية للمفهوم، أو قل مرحلة (الإرهاب) المنظم المواكب للمواجهة الجمعية، مواجهة التفهم والحل. وأحسب أن اتفاقية عام 1937م المصوغة تحت رعاية (عصبة الأمم) هي بداية التأسس للحدث والمفهوم، وتبع ذلك إنشاء (المحكمة الجنائية)، ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات والتوصيات، وإنشاء المحاكم والمنظمات والجمعيات، للحيلولة دون الظلم أو التعدي، ولما تكن تلك المؤسسات والهيئات قادرة على ممارسة مهماتها بحيادية ومساواة، بل أصبحت في كل الأحوال إلا ما ندر أداة طيعة للأقوى، بحيث أصبحت بفعلها المنحاز أو المتخاذل محرضة على توتر الشعوب وغضبها. ومع تلاحق الأحداث غير المشروعة، تنامت المواقف المضادة، ومنذ السبعينيات أصبح (الإرهاب) مصطلحاً حاضر المشاهد الاعلامية والسياسية. ولقد ارتبطت الاهتمامات والاتفاقيات بأحداث ووقوعات، سماها المتضررون إرهاباً، فيما سماها المنفذون مقاومة مشروعة، ولربما كانت دورات (الأمم المتحدة) تنطوي ملفاتها على مزيد من الدراسات والتوصيات التي لم تُفعَّل، بسبب اقتضاء بعض المصالح حماية المنظمات الإرهابية باسم المعارضة المشروعة، وساعد على ذلك تفاقم المشاكل الإقليمية وتسلط السلطات، وتعاقب الثورات والانقلابات، وارتباط ذلك بالتصفيات الجسدية والمقابر الجماعية والمنافي والسجون، ولما كانت الدول الكبرى ك(أمريكا) التي هي الأقدر على تفعيل التوصيات لم تعرها أي اهتمام، فقد رقدت على رفوف الهيئة، ومتى لم تتعرض دولة عظمى ك (أمريكا) للإرهاب، فإنها لن تلح في أمره، وحين لا ترمي بثقلها، لا يكون للظواهر وزن ولا حضور، وكم عانت دول عربية ك (المملكة) من العمليات الإرهابية، وكم حذرت ذوي النفوذ، ولكنها لا تُسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. ولعل من المحفزات على تهميش قضية الإرهاب من قبل تناقض الآراء والمواقف، وتعدد المفاهيم، وحين اكتوت الدول المهيمنة بلهيبه، عدَّلت من مواقفها، حتى لقد تحولت المعارضة والمقاومة عندها إلى إرهاب، ولولا اكتواؤها لكان الإرهاب معارضة مشروعة تحتضن أطرافها. وإذا لم نستطع مواجهة الحقائق المرة وقول ما نعتقد وما نتصور أو لم نرغب ذلك، ظل الحديث من باب اللغط الممل. وحين يستولي علينا العجب بآرائنا، والانفراد بالحل، والإصرار عليه، نكون كمن يسعى بمحض إرادته لتعميق الخلاف، ومن ثم لا بد من التسديد والمقاربة. فالقول بأن الإرهاب على إطلاقه معارضة، وتعمد مواطأة الإرهابيين وإيوائهم بوصفهم مقاومين أو معارضين لاتفاق فعلهم مع المصالح العارضة وغير المستقرة، وتعدد المواقف أمام الأعمال المتجانسة، والانحياز السلبي، وفرض الرأي بالقوة، كل ذلك مؤذن باتساع دائرة الإرهاب والاختلاف معاً. وإذ تتباين وجهات النظر حول المفاهيم، تختلف كذلك حول الأسباب وأساليب المواجهة. وحين تعرضت أمريكا لأبشع صور الإرهاب، أقبل الناس عليها يزفون، وتقبلوا مفهومها وأسلوب مقاومتها، حتى لقد طرحت أقسى تعبير عرفته الإنسانية: (من لم يكن معي فهو ضدي). ومع تعدد المفاهيم وتنوع الأسباب تتعدد طرائق التنفيذ ليكون الإرهاب بمفهومه المطلق أوسع من التفجير وأبعد، والمتتبع للاتفاقيات الدولية، يدرك أنه يتسع لإجراءات ومجالات متعددة: كالملاحة والموانئ والمنصات والمطارات واحتجاز الرهائن وخطف الطائرات والقرصنة وتسريب المواد النووية والاغتيالات والمظاريف البريدية المفخخة والمساحيق السامة ومخالفة الاتفاقات الدولية.
وأي تخويف تمارسه جماعة مسلحة تحت أي مطلب يعد إرهاباً. غير أن ممارسة التفجير للمنشآت طغت على بقية الأنواع الأخرى، وبهذا العنف دخل الإرهاب إطار الزمان والمكان والحدث، وانفصل عن محدوديته، ومهما تعددت الأسباب فإن الإرهاب واحد بوصفه ممارسة، ومتعدد بتعدد أنواعه وظروفه وأحواله. والإرهاب أنواع، يتعدد بتعدد الظروف والأحوال، وقراؤه العدول يضعون قيماً حكمية لهذه التعددية، فإذا حمي وطيس الحروب، أو استشرى الظلم والقهر كان الإرهاب مخاض ظروف طبيعية، بمعنى أنه متوقع ومرتقب، وإن كان مرفوضاً في أعراف الدول، أما حين لا تكون حرب ولا يكون ظلم فإنه يكون مثيراً لعدم توقعه، وبهذه الأجواء يدخل إطار العبثية وصدق رسول الله الذي أخبر أنه في آخر الزمان (يكثر الهرج) ولا يعرف القاتل والمقتول لماذا حصل ما حصل.
وحين تنبعث الفتنة في إقليم دون غيره بسبب الجور والظلم أو بسبب التعدد الطائفي أو العرقي، أو بسبب غليان الأوضاع العالمية تكون ممارسة الإرهاب تعبيراً عملياً عن رفض الواقع القائم، وأسلوباً من أساليب حمل المتسلط باسم السلطة على فك الاختناقات، وإقامة العدل والمساواة ومنح الأقليات حقها المشروع بوصفها شريكة في الحقوق والواجبات.
وفي هذه الحالة تختلف المفاهيم والمواقف والأسباب، وبخاصة حين تتحكم العلاقات والمصالح المتبادلة بالتدابير والوسائل. وفي ظل هذا التحكم تجد قوماً يصفون أي مواجهة بالإرهاب، وآخرين يعدون مثل ذلك شأناً إقليمياً، وقد نجد من يؤيد ويدعم، ولربما تعم العمليات آفاق المعمورة، وتصبح كل دولة معرضة للإرهاب، وذلك ما نشاهده الآن، أو قد تكون دولة دون أخرى معرضة مصالحها للإرهاب، وهذه الأنواع تضع المتابع في حيرة من أمره. فمتى يقطع بأن مثل هذا العمل وفق تنوع أوضاعه إرهاب أو مقاومة؟ والتعاطف مع المتضرر لا يحسم المشاكل، والمسايرة للمفاهيم الناتجة عن مواقف الانفعال لا تحظى بالقبول. وإذا كاد الناس يُجمعون على أن الحسم العسكري مع إمكان الحل السلمي يعد إرهاباً دولياً، فإنهم سيختلفون مع من يمارس ذات الحل العسكري اضطراراً، ليكون الأمر غمة، ونصف الحقيقة لا يضمن نصف الحل.
وفي حمأة الجدل الصاخب لم يعد من نوافل القول بأن الحديث عن (الإرهاب) حديث طال وتشعب، واختلفت فيه الآراء، وتعددت المواقف، وتباينت المفاهيم، وقيل فيه وعنه ما لم يُقل في أي قضية أخرى، لقد شاع الحديث عنه بين سائر العلماء والمفكرين والساسة، ووسعته علوم الدين والإجرام والنفس والاجتماع والسياسة والقانون. وما من داخل في متاهته إلا وله فيه قول يحيل إلى مرجعية خاصة، وينطلق من سياقات خاصة، وتوجهه أنساق وظروف خاصة، وفي ذلك ما فيه من مضاعفة الرعب والخوف، وكأننا في إرهاب الإرهاب. ولو صدق المهيمنون بالسلاح و(التكنولوجيا) مع أنفسهم ومع من حولهم من الأنداد، ومع سائر الشعوب المهمشة والأجناس والديانات المضطهدة لكان أن عرف الجميع الحق وتوفروا عليه، ثم لا يكون هناك إرهاب ولا سباق تسلح ولا هضم لحقوق ولا استعمار ولا احتلال ولا استيطان ولا إبادة ولا تفرقة بسبب عرق أو لون أو دين. وحين تملك المصالح و(الاستراتيجيات) حق إطلاق المصطلحات وتعريفها، ثم تتباين المصالح وتتعارض (الاستراتيجيات) يكون من حق المباين والمعارض أن يسك مصطلحاته، وأن يعطي مفاهيمه، أو يتلقى مصطلح الآخر، ويفرغه من محتواه، تمهيداً لشحنه بمفهوم مغاير، وعندئذٍ يظل الخلاف والتنازع في نمو مطرد، وذلك ما يعانيه العالم حول مصطلح (الإرهاب).
وإذ نقول بأن الإرهاب سليل اللعب السياسية فإننا لن نغفل الحواضن والمواثرات الأخرى. فالتطرف (العلماني) لعب دوراً تحريضياً، والتطرف (الحداثوي) لعب دوراً استفزازياً، و(التنظيمات الإسلامية الغاضبة المتطرفة) لعبت دوراً تضليلياً. وسائر المنظمات والأحزاب والجماعات، وبخاصة ما كان منها خارج السلطة تشكل أرضية قابلة لتفريخ الإرهاب، ولكن يجب ألا تغيب عن بالنا الضغوط المثيرة للغضب، بحيث لا نهمل أحداثاً شكلت منعطفات خطيرة في حياة الأمة تمثلت في:
- تلاحق الانقلابات والثورات العربية التي نشأ في ظلها طغيان الخطاب التشنجي الاستعدائي، واستمرار الخيانة، ونقض العهود، والتصفية للخصوم بالاغتيالات.
- استشراء الضعف والوهن والحزن في كيان الأمة العربية مع تنامي العنف والشراسة في الكيان الصهيوني، والتقدم المادي والرسوخ المؤسساتي في الغرب.
- نكسة حزيران التي أحبطت الإنسان العربي 1967م.
- الثورة الإيرانية وإعلان الجمهورية الإسلامية 1979م.
- اعتماد تصدير الثورات والمبادئ عبر الخطابات الإعلامية.
- فشل كل المشاريع الوحدوية و(الديمقراطية) والحزبية والقومية.
- ظاهرة التطبيع والهرولة مع العدو الاسرائيلي 1981م، في ظروف استشراء الإرهاب والتطرف اليهودي.
- الحس الكنسي الذي قوّى الروابط بين اليمين الأمريكي والتطرف الصهيوني.
- الحرب الأفغانية، والتوسع في أسلمة الحرب، والتعبئة الجهادية.
- الحرب العراقية الإيرانية، وتناقض الآراء والمواقف.
- احتلال العراق للكويت، وتصدع الصف العربي وانهيار القومية.
- تحرير الكويت من قبل التحالف العالمي، وغياب الحل العربي.
- احتلال العراق تحت ذرائع لم يتحقق أدناها، ودون إجماع عالمي، واستشراء الإرهاب في ظل الفراغ الدستوري.
- انكشاف اللعب الكونية والإقليمية وسقوط الأقنعة.
كل ذلك أدى إلى الإحباط واليأس واللامبالاة، ومع كل ذلك فإن العالم لم يشأ التفريق بين الإرهاب المرفوض والمقاومة المشروعة، وستظل إشكالية المفهوم في تنام وانبهام، حتى يأذن الله لهذه الأمة باستعادة عافيتها ومكانتها بين العالمين، ولكي نكون قادرين على تحرير المفاهيم وتحديد الأسباب يجب استبعاد الوقوعات الصارخة، فحدث مثل تفجير (الرياض) الأخير لا مجال فيه للاختلاف، لأن له سياقه الخاص الذي لا يؤدي إلا لموقف واحد، هو الرفض والاستنكار والتحريم والتجريم.
|