في كل مسافة من الزّمن تتّقد مصابيح وتنطفئ أخرى، وتشرق الشمس وتتوسط كبد السماء ثم تنحدر للمغيب، ويمحو الله آية الليل ويجعل آية النهار مبصرة، ويولد مئات ويموت آخرون، وتتفجّر ينابيع بالماء العذب وتجفّ أخرى، وتُلفّ ألوية متعددة ومتنوعة وتنشر أخرى مثلها في أنحاء المعمورة، وهذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وموت ابن آدم هو الحقيقة اليقينيّة الكبرى كحقيقة مولده ووجوده وإحساسه بذاته:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، والدنيا كفيء ظلال ذهب فقلص، أو كما يدخل أحدنا من باب داره ويخرج من الباب الآخر،
ولكل حيّ موعد يمشي له
فإذا أتى خضعت له الأقدار |
بالأمس القريب غارت نجوم كانت تضيء دروب حياتنا، وانطفأت مصابيح كنا نمشي على نورها، ومات عدد من العلماء الذين كان لهم دور فاعل في توجيه سفينة الحياة لهذه الأمة المباركة كالشيخين ابن باز وابن عثيمين وغيرهما، ونحمد الله أن سطعت نجوم أخرى واتّقدت مصابيح جديدة عزّتنا في مصابنا الجلل وأشرقت على نورها آمالنا وطموحاتنا، واليوم، وفي محافظة الوشم بالذات تجفّ ينابيع كانت تتدفّق بالمياه العذبة الصافية فتروي قيعاناً مجدبة لتكتسي بما ينفع الناس، صورة حيّة لأهل الدثور وهم يتسابقون على نيل الأجور ويمدّون أيديهم لأسر فقيرة مسكينة مُتعفّفة في هذه المحافظة وفي غيرها، وشباب عاجز عن تكاليف الزواج، وأيتام وأرامل يكابدون المرض والفقر، ومشاريع خيّرة يستفيد منها الجميع،
ولكن كما قال الشاعر:
لا يركننّ إلى الحياة مُمتّع
فالبُعدُ دانٍ والمدى مُتصرّم
ووراء آمال الرجال منية
يعدو بفارسها حثيث مُرجم |
في يوم الأربعاء 9-3-1425هـ انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمد بن عبدالله الجميح أسكنه الله فسيح جناته وجبر عزاءنا وعزاء أولاد أخيه وأولاده وجميع أفراد أسرته وألهمهم الصبر والسلوان.
لم ألْتقِ بالشيخ - وأُقرّ بأني مُقصِّر في حقّه وحق أمثاله ممّن ندين لهم بالفضل والثناء - ولكن كانت - وما زالت - تربطني به مودة خالصة وعلاقة وطيدة نبتت وترعرعت في سويداء قلبي، يسقيها ماء المحبة في الله الذي يمطر عليها شآبيبه مع آيات الشكر والثناء على أعماله الخيرية التي تصل إلى مسامعي كل يوم فتثمر بالدعاء المتواصل، تغمده الله بواسع رحمته.
في عام 1375هـ سكنتُ شقراء للدراسة في المعهد العلمي، وكنا خمسة طلاب في منزل واحد، نشتري قربة الماء العذب من بئر (الزّرعي) بريالين - ثمن باهظ في ذاك الوقت - نشرب منها ونعمل منها الشاي ووجبة الغداء فقط، ويحذّر بعضنا بعضاً من استعمال مائها لغير ذلك، وربما تجسس بعضنا على بعض حتى لا يتوضأ أحد منها تحت جنح الظلام وإن اتّهم أحد بذلك أو قُبض مُتلبساً فالويل له والثّبور، كانت القربة تكفينا في الشتاء خمسة أيام أو ستة وفي الصيف ثلاثة أيام فقط، وكنا نجلب الماء المالح من الآبار الأخرى لنغسل به ملابسنا وأواني طبخنا فيبقى أثر الملح خيوطاً بيضاء في الثياب وملوحة تخالط أكلنا من الأواني، وهذه حالة جميع الأسر في ذاك الوقت.
في هذه الظروف الحرجة التي شحّ الماء فيها على شقراء، وفي الحالة الاقتصادية لأسرة الجميح في ذاك الوقت تبرعت هذه الأسرة الكريمة بحفر بئر ارتوازية عميقة ومدّت شبكة الماء لبيوت المدينة فشرب الناس وتوضأوا بالماء العذب وفُكت قيود الرقابة عن ماء قربتنا.
توالت مشاريعهم الخيرة كتفطير الصائمين في رمضان وكسوتهم ومساعدة المحتاجين والجمعيات الخيرية ومدارس تحفيظ القرآن والعناية بالأيتام والأرامل وبناء المساجد وغير ذلك من الأعمال الجليلة، أثابهم الله وجعل ذلك في موازين حسناتهم.
لقد ساهمت هذه الأسرة الكريمة بمشاريع عديدة ومتنوعة في شقراء وغيرها، وساهمت معها في مشاريع شقراء أسر كريمة أخرى لا يتسع المقام لذكرها فالشكر موصول لهم جميعاً.
وفي جميع مدن وقرى الوشم ساهم رجال مخلصون في جميع المؤسسات والأعمال الخيرية ففي أشيقر ساهم كثيرون كالشيخ محمد بن سليمان اليحيى رحمه الله وأخيه الشيخ عبدالله حفظه الله والشيخين صالح وعبدالعزيز ابني إبراهيم أبا حسين، والشيخ عثمان بن عبدالرحمن الحصيني رحمه الله وأخيه حمد الحصيني حفظه الله، وكذلك الوجهاء علي بن عبدالعزيز الضويان وعمر بن سليمان العبداللطيف ونجم أبا حسين والشيخ الزاحم في القصب وغيرهم كثيرون.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم على أهالي المحافظة بإلحاح ورغبة أكيدة في جواب عملي نقضي به بعض ما ندين لهم به:
ماذا عملنا لهؤلاء وقد قدموا لنا الكثير والكثير؟!!
نعم: نحن نعلم بأنهم لم ولن يطلبوا منا جزاءً ولا شكوراً، وأنهم يتسابقون إلى هذه الأعمال الجليلة احتساباً وطلباً لأجر الله وثوابه - نحسبهم كذلك والله حسيبهم - ولكن مع هذا يجب أن نترجم شكرنا لهم بعد شكر الله عز وجل إلى أعمال حيّة تعود عليهم بما ينفعهم في حياتهم وبعد مماتهم، ومن أفضل هذه الأعمال وأيسرها الدعاء لهم في ظهر الغيب وإحياء ذكراهم لهذا الدعاء بمشاريع خيرية ترتبط بأسمائهم كجوائز حفظ القرآن والسنّة النبوية والتفوق العلمي وبناء المساجد ودور العلم والمستشفيات ومساعدة أسر الطلاب مع بداية كل فصل دراسي، وتسمية المدارس والميادين والشوارع وبعض مشاريع القطاع العام والخاص بأسمائهم، وتدوين أعمالهم والإشادة بها وغير ذلك مما يجدد الاعتراف بجميلهم وشكرهم والدعاء لهم والاقتداء بهم.
ومن أبرّ هذه الأعمال وأولاها مواصلة ذويهم من أولادهم وإخوانهم وغيرهم لأعمالهم الخيرية وتبرعاتهم السّخيّة ليبقى لهم أجر صدقاتهم يسابق دعاء الصالحين.
سؤال أعيده بإلحاح ورغبة أكيدة، ليجيب عنه كل مسؤول في المحافظة، ولتجيب عنه الجمعيات الخيرية ولجان أصدقاء المرضى وتحسين المدن والقرى ورؤساء المراكز ووجهاؤها وذوو الرأي والمشورة فيها، الذين كان هؤلاء الأثرياء - وما زالوا - يدعمون أعمالهم بعصب حياتهم ودم عروقهم.
في هذه المحافظة وفي جميع محافظات المملكة ومع جميع رجال الأعمال الذين يجودون بأنفس أموالهم في سبيل الخير والمشاريع الوطنية والتكافل الاجتماعي.
|