من الناس من يحكم على نفسه بالسجن المؤبَّد في أبشع سجن عرفته البشرية ألا وهو (سجن الحقد)، حيث يظلُّ الحاقد في سجنه هذا راضياً بزنزانته المظلمة، مكبَّلاً بقيوده القاسية، محصوراً بين جدرانه المعتمة، لا يخرج منه إلا لتوزيع ما لديه من غازات الكلمات السامَّة، وكيماويات الأفكار الضالَّة، ودخان الهمز واللمز، والنَّيْل من أعراض الناس، وجراثيم سوء الظنِّ في الآخرين، وحشرات اتهام أهل الخير في نيَّاتهم، ثم يعود سريعاً إلى زنزانة حقده المظلمة لأنه لا يستطيع أن يعيش خارجها.
والمشكلة الكبرى التي يعاني منها(سجناءُ الأحقاد) أنَّهم يعيشون وهم الاقتناع بحالتهم، ويجدون من بعضهم تأييداً كبيراً، وإصغاءً وارتياحاً، ولا يلتفتون إلى صور الحقائق المشرقة التي لا تخفى على عين ناظر، ولا قلب مستبصر، ولا وعي عاقل، لأن الحقد يعمي البصيرة، وإذا عميت البصيرة أظلمت جميع الصور التي يراها صاحبها، وأصبح الظلام أحبَّ إليه من إشراقة الشمس الساطعة، وبريق الفجر الجميل.
إن (سجين الحقد) يعاني من نقص شديد في (مادة النَّقاء والصَّفاء)، فهو يعيش غَبَشاً في غبش، وكدراً في كدر، لا يرى من الأشياء إلى جانبها المعتم، ولا يبصر إلا سواد السلبيَّات، ولا يسمح لعدالة الرأي، وصفاء البصيرة، وحسن الظن أن تجد لها مكاناً في نفسه، فهو من عذابٍ إلى عذاب، ومن شكٍ إلى شك، حتى ينتهي به الأمر إلى الهلاك وهو في وهمه القاتل، ولربما يكون إدراكه للنهاية السيئة بعد فوات الأوان.
ولا شك أبداً أنَّ (سجين الحقد) يعاني من مشكلة خطيرة، ألا وهي (ضعف الإيمان بالله عز وجل)، لأن الإيمان الصادق الصافي لا يتفق مع الحقد، ولا يجتمع مع الغلِّ والحسد وسوء الظن في قلبٍ واحد، وهنا تكمن خطورة (الحقد الأعمى)، وإنَّ من المظاهر التي تسيطر على كثيرٍ من سجناء الأحقاد، انحراف المزاج، ورؤية الأشياء على غير حقائقها، واللجوء إلى رفقةٍ مناسبةٍ مشاركة في الداءِ نفسه يجلس معهم ليقتات من لحوم الناس، ويشرب من دمائهم، وإذا تفاقم الأمر عند بعض سجناء الحقد كان اللجوء إلى بعض ما يغيِّب الوعي من مسكراتٍ وغيرها وسيلةً من الوسائل التي تخفِّف (وقتياً) من شعورهم باللهيب الذي يحرق قلوبهم، وشعورهم، وَيُلهب صدورهم الضيِّقة.
إنَّ الطريق الوحيد للخلاص من هذا الداء الخطير هو الرجوع إلى الله عز وجل واستشعار الخوف منه، والارتباط به عبادةً ودعاءً وإحساناً، ومراقبةً ورجاءً في عونه ورحمته وسداده.
إن العودة إلى الله تعالى هو المنقذ الأول لسجين الأَحقاد، وهي الدواء الناجع لدائه العُضال، وهي الطريق الصحيح الذي يُوصِّل إلى النجاة من ظلماتِ الحقد، وزنزانته المظلمة، وما من طريقٍ آخر ينفع هذا الصنف من الناس نفعاً يخرجهم مما هم فيه من المعاناة القاسية.
من السهل على كلِّ إنسان أن يفتح باب سوء الظن في الآخرين، وأن يوجِّه إليهم من التُّهم الناتجة عن سوء الظن ما يريد، ولكنَّ الصُّعوبة الحقيقية تكمن في قدرته على تحمُّل عقاب الله له في الدنيا والآخرة، العقاب الذي لا يشك فيه إلاَّ من حكم على نفسه بالسجن المؤبَّد في (زنزانة الأحقاد)، إنَّها دعوةٌ صادقة إلى كل سجينٍ في حقده وحسده وسوء ظنِّه أن ينقذ نفسه قبل فوات الأوان، وأن يكتب - برجوعه إلى الله - ورقة خروجه من هذا السجن الرَّهيب، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يصنع ذلك.
إشارة
يا صاحبي هذه الدنيا مودعة
ولو ملكت بها أموالَ قارونِ |
|