لا ريب أن للسنة النبوية منزلة سامية في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني لهذا التشريع بعد كتاب الله عز وجل. وكثيراً ما كانت آي الذكر الحكيم تنزل مجملة غير مفصلة، أو مطلقة غير مقيدة، فتتكفل السنة النبوية ببيان تفصيلها، وتقييد مطلقها. لقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مبيِّن للقرآن الكريم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44). كما أوجب ربنا -عز وجل- على المسلمين اتباع نبيهم فيما يأمر به وينهى عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} «الحشر: 7»، حتى إنه سبحانه قرن طاعة الرسول بطاعة الله، وأوجب ذلك على المؤمنين {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }«آل عمران: 132»، وهو سبحانه يحث الذين آمنوا على الاستجابة لما يدعو إليه رسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} «الأنفال: 24»
وتعدُّ الآية الكريمة في سورة النساء طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طاعة لله {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} (النساء: 80). ولم يُبِح الله سبحانه أن يخالف أحد من أتباع هذا الدين الحكم الذي يقضيه الله ورسوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 36).
وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يلتزمون حدود أمره ونهيه، ويتبعونه في هديه وتوجيهه، فكانوا يأخذون منه أحكام الصلاة وأركانها وهيئاتها، نزولاً عند أمره (صلوا كما رأيتموني أصلي) (رواه مسلم). وكذا باقي أحكام فرائض الدين وسننه.
وعندما انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى ما كان أحد من المسلمين ليرتاب بأن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجبة عليهم بعد وفاته؛ لأن النصوص الشرعية لم تُقيد طاعته بزمن حياته، ولا بصحابته دون غيرهم. ومن هنا عدَّ المسلمون الغُيَّرُ على هذا الدين تبليغ السنة إلى الأجيال التاية أمانة جُلَّى في أعناقهم، وكانوا يعدُّون خدمة سنته عبادة وأيَّ عبادة.
لقد تكفل الله -عز وجل- بحفظ كتابه الكريم ووحيه المبين الذي أنزله على رسوله ژ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون }«الحجر: 9». ومن حفظ كتاب الله حفظ سنة المصطفى ژ ، لأن السنة وحي من الله إلى رسوله ژ {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } «النجم: 3، 4».
ومن هنا ندرك مدى الغفلة التي يتصف بها مَن يرتاب في هذه الحقائق، ويختلق شبهات مبنية على سراب خادع لا تقف أمام أي بحث وتمحيص.
ونظراً لأهمية تبليغ السنة بالطرق السليمة التي تكفل لها دقة التوثيق وسلامة التبليغ عني علماء المسلمين بوضع القواعد التفصيلية التي تبين طرقها وتنقد رواتها، وذلك لرد ما قد يدخله المغرضون وأصحاب الأهواء إليها. وقد بلغت هذه القواعد شأواً عالياً في الإحكام والضبط على نحو لم تبلغه معارف أية أمة من الأمم.
لقد حرص المسلمون مع مرور القرون المتعاقبة عل خدمة السنة المطهرة، واشتهر كثير من خلفائهم بتشجيع العلماء وإعانتهم وحثهم على القيام بهذه المهمة الجليلة.
ولو استعرضنا تاريخ المملكة العربية السعودية الحيدث منذ نشأتها نجد أن هذه الدولة اعتمدت كتاب الله وسنة رسولهژ ، وجعلتهما الأساس المتين لتشريعاتها وأحكامها، وسعت في تحكيم هديهما في جميع شؤون الحياة، وذلك منذ أن تعاهدا الرجلان الصالحان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب على النهوض بأعباء الحكم والدعوة وفق هدي السلف الصالح، والوقوف أمام البدع التي أفسدت صفاءها. ومن هنا كانت عناية هذه الدولة حكامها وعلمائها ومؤسساتها التعليمية والبحثية بكتاب الله الكريم الذي لم يفرط الله فيه من شيء، حفظاً وتفسيراً وتطبيقاً في جميع شؤون الحياة.
ثم العناية بالسنة وعلومها، وبالسيرة النبوية التي هي التطبيق العملي لأقوال رسول الله ژ وأفعاله وتقريراته، وما هذه الندوة (عناية المملكة بالسنة والسيرة النبوية) التي تم تنفيذ إقامتها بتوجيه ودعم خادم الحرمين الشريفين إلا ثمرة من ثمرات هذه العناية. وإدارة الشؤون العلمية في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بعد أن تسلمت توجيهات الأمانة العامة للمجمع شرعت في الترتيب الإجرائي لعقد هذه الندوة؛ ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، وصح عزمها على الوفاء بمحاور الندوة وموضوعاتها، فخاطبت الباحثين المتخصصين في السنة والسيرة النبوية في العالم الإسلامي، واستقبلت بحوثهم العلمية. وقد اشتملت الندوة على ثمانين بحثاً تدخل ضمن ثمانية وأربعين موضوعاً.
وبإذنه تعالى سوف ينجم عن هذه الندوة خير عميم بما تتضمنه من بحوث متخصصة محكمة، وبما يعقبها من مناقشات ومداخلات تثريها، وبما تنتهي إليه من توصيات بناءة إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|