على مشارف التسعين، وبعد حياة حافلة بالكدّ والكدح، والعمل والأمل، والعطاء والمضاء، رحل عن الدنيا الفانية إلى العليا الباقية الشيخ محمد بن عبدالله الجميح - رحمه الله - وأكرم مثواه ، في بيئة فطرية نقيّة، فقيرة في كل شيء إلا عزائم الرجال، نشأ الراحل الكريم وترعرع ، كان يعمل في الخيزران ، يصنع منه العصي و(البواكير)، ولعلّه منه استمد اثنتين من صفاته الحميدة التي يتمتع بها: القوة واللين معاً، اللتين أشار إليهما الشاعر بقوله:
أنا (كالخيزور) صَعْبٌ كسْرُهُ
وهو لِيْنٌ كيفما شئتَ انْفَتَلْ! |
كان هدفهُ واضحاً، وكانت خُطّتُه واضحة، وكان يملك - بعد الإيمان بالله والتوكل عليه - قوة العزيمة، وصفاء الذهن، وهذه - لَعمري - كل مقوّمات النجاح ، وبدأت رحلة العمل التجاري تتدرّج من القليل إلى الكثير، ومن الصغير إلى الكبير، ومن اليسير إلى العسير!
ودخل الشيخ محمد بن عبدالله الجميح إلى عالم (الأعمال) الواسع المعقّد ليتعامل مع الشركات الكبرى في أوروبا وأمريكا، لا معاملة النِدّ فحسب، بل معاملة التألّق والتفوّق ، ومع ازدياد غناه وثرائه كان يزداد بذلاً وتواضعاً، وكأنه يتمثل قول الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكتَه
وإذا أنفقتَه فالمالُ لكْ! |
ومع ازدياد مسؤولياته وأعبائه كان يزداد توازناً، فلا يطغى في حياته حقٌّ على حقّ ، يؤدي واجبه نحو الأقربين، ولا يقصّر في الالتزامات الاجتماعية؛ يعود المرضى، ويعزّي المصابين، ويحضر المناسبات العامة، ويجلس لزواره في منزله بعد عشاء كل يوم حتى أصبح من كبار وجهاء مجتمعه، له التقدير والاحترام عند علية القوم.
وما كان يزيد على وفائه لإخوانه إلا وفاؤه لأهله وقرابته، كان هو وأخوه عبدالعزيز كياناً واحداً، وشاء الله أن يسبقه عبدالعزيز إلى دار البقاء، فحدب على أولاد أخيه كأنهم أولاده، وكنت أسمعه دائماً يقول عنهم (العيال) مهما كبرت سنهم! إن من واجب الأبناء والأحفاد أن يكونوا أوفياء لمبادئ الوالد الكريم - الذي تمثل أخلاق الإسلام من هذه الناحية - وأن تزداد علاقتهم عمقاً وصدقاً لكي يحافظوا على هذا الاسم اللامع والسمعة الطيبة، وعلى ما رباهم عليه أبوهم، وهم يرددون بلسان حالهم:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثلما فعلوا |
وأصرّ على أن يضمَّ منازلهم سورٌ واحد، وأن يجتمعوا على مائدة واحدة.
لقيته قبل عشرين سنة، وألححت عليه أن يكتب مذكراته، فقال لي: ليس عندي ما يستحق أن يكتب! قلت: إن قصة حياتك ملأى بالدروس التي يجب أن يتعلّمها أبناؤنا وبناتُنا ليكونوا ناجحين، ويقرأوا بين سطورها قصة الطموح، والكفاح، والعزيمة، والمكابدة.
لقيته في المستشفى قبل ثلاثة أيام من وفاته فدعاني إلى منزله لتكريمي، وعبّر عما يكنّه من مشاعر صادقة نحوي.
إني أعزي في الفقيد العزيز الراحل أهله، وأقرباءه، ومحبيه، وعارفي فضله، وأرجو أن تكتب دروس حياته لتكون عبرة للأجيال. رحمه الله، وجزاه خير الجزاء وأعلى مقامه عنده.
وفي الختام فإني أكرر دعوتي لأبناء الفقيد، وأبناء أخيه، وإلى الأحفاد الكرام ألا يجعلونا نشعر بأن مؤسسة الجميح ذات السمعة الواسعة والذكر العطر قد تأثرت بعد وفاته.
إنهم - جميعاً - كانوا حريصين على برّه في حياته، وهم جميعاً أحرص على برّه بعد وفاته، وإن من أبرّ البرّ أن تزداد بينهم وشائج المودة قوة، وأن يزدادوا محبة ووفاءً، وتعاوناً وإخاءً.
|