وردت لنا ذكر القبور الجماعية بعد العدوان على العراق من قبل أمريكا وبريطانيا التي اكتشفها الأمريكيون، وشهد عليها الأمريكيون، ونقلها لنا الأمريكيون حية على الهواء.
لم يناقش أحد في صحة وجود مثل هذه المقابر، ولم تحدد هوية من في المقابر ولم يحدد تاريخ هذه المقابر، ولم يحدد كيفية حدوث الإبادة الجماعية لمن في هذه المقابر، ولم توثق الأمم المتحدة وتشارك في التحقيق في مثل هذه المقابر.
صدام حسين بلا شك دموي، وكان يقتل علنا، وخاصة أفرادا من القيادات المخالفة له في الرأي، ولكننا لم نسمع يوما أنه قتل المئات، أو الآلاف، وأنهم وضعوا في قبور جماعية كما صور لنا، الأمر المؤكد أن صدام استخدم الكيماوي على حلبجة، وكان ذلك أمرا ظاهرا بارزا وجليا وواضحا للعيان.
لماذا لم تظهر الولايات المتحدة السجلات للوفيات التي بمئات الآلاف أثناء الحصار الجائر، إن وزيرة الخارجية الأمريكية البرايت عندما قيل لها: إن مئات الآلاف يموتون من الأطفال والنساء بسبب الحصار قالت بما معناه ليس هذا مهما في سبيل الإطاحة بصدام ونظامه، الغاية عند أولبرايت تبرر الوسيلة، وهي في هذا لم تختلف عن صدام في قتل بعض القيادات السياسية المعارضة وسجن الآلاف.
أنا هنا لا أدافع عن نظام صدام، والمؤكد أنه كان يقتل القيادات المعارضة القوية، ويودع الكثيرين في السجن، ولكننا لم نسمع من الشعب العراقي أنه قتل المئات والآلاف دفعة واحدة، ووضعهم في مقابر جماعية إلا بإحياء من سلطة الاحتلال، لم تدع المعارضة العراقية، وهي في خارج العراق بوجود هذه المقابر الجماعية، وتحديد مكانها وإثباتها، المقابر الجماعية لا بد أن تكون معروفة لدى جميع من شارك فيها، وكان بالإمكان أن يخرج أحد ممن شارك فيها ويعلن ذلك ويصبح من المعارضة.
لا شك أن نظام صدام حسين كان نظاما قمعيا ودمويا، ويعتبر صدام على الأقل من خلال ما ثبت من جرائمه مجرما، بكل المقاييس والشرائع والأعراف، ولكن ما الفرق بينه وبين ما يقوم به الأمريكيون اليوم وحلفاؤهم في العدوان والاحتلال.؟
جاء الاحتلال كما ادعى، ولا يزال يدعي ليخلص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ويخلص العراق من دكتاتورية الطاغية صدام، ويقدم للشعب العراقي الديموقراطية ويقدم لهم الحرية، ويقدم لهم الرخاء الاقتصادي!!!.
تبخرت أسلحة الدمار الشامل، وصيغت المبررات لتبخرها، فتارة هربت لسوريا وتارة دمرت قبل وصول القوات الأمريكية، وتارة أن صدام كان يدعي وجودها برغم عدم وجودها، ولكن ليتظاهر أنه قوي، وتارة سنجدها في المستقبل.
ولعل آخر تبرير، وبعد عدم إثبات أي من التبريرات السابقة، ظهرت المقولة من بعض الساسة الأمريكيين التي تقول: إننا وجدنا البرامج التي تخطط لإنتاج أسلحة دمار شامل، واعتبر هذا وحده كافيا لغزو العراق!!!!
يجب أن يدرك الجميع أن القوات الأمريكية إلى العراق جاءت إلى العراق بهدف الاحتلال، والبقاء لمدة طويلة من الزمن، لأهداف استراتيجية تمكنها من الاستمرار في التربع والهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا كقوة وحيدة بارزة على الساحة العالمية، لم تأت طمعا في بترول العراق، فبترول العراق لا يكفي لسد ديون العراق، ولكن لا يعني أنها لن تستفيد منه بالحد الأقصى ضمن الاستراتيجيات الاقتصادية العامة.
إن السياسة الأمريكية الطويلة المدى تهدف إلى جعل الشعب العراقي بقدراته المتنوعة في حالة فقر من جميع النواحي، فقر علمي وتقني، وهذا من أهم الجوانب، وقد شكلت لجنة في الولايات المتحدة قبل غزو العراق لتغيير المناهج في العراق.
إن تغيير المناهج ليس فقط من السياسة الحزبية البعثية، ولكن من الجوانب العلمية التقدمية التقنية، لا أحد ينكر أن الجامعات العراقية كانت من أقوى الجامعات العربية في مجال البحث، ولكنها الآن أصبحت بحالة مزرية.
فإذا كانت أمريكا تهتم بالشعب العراقي، فلماذا لا تهتم بالصفوة العلمية، اهتمامها جاء بطريقة معكوسة تدفع على الهجرة لهذه العقول إلى أمريكا وغيرها، وهذا من أخطر الجوانب على التعليم في العراق.
الذي يبدو من السياسة الأمريكية في العراق هو العمل على إفقار هذا البلد وإبقائه لعقود طويلة مغرقا بالديون التي لن يستطيع النهوض منها في ظل هذه السياسة.
ولا شك أن النظام السابق أسهم في إغراق العراق في الديون بدخوله في حربين، ولكن المؤكد أن الولايات المتحدة ستفقره أكثر وأكثر، وخططت لذلك من خلال الحصار الذي سعت بكل جهودها للحصول على قرار فيه من الأمم المتحدة.
بعد الاحتلال سيطرت على دخل العراق من البترول وأبرم بريمر العقود الهائلة مع الشركات الأمريكية دون مناقصات، وبأغلى الأسعار، كل ذلك على حساب قوت الشعب العراقي، من يقول: إنها تعمل لمصلحة الشعب العراقي والشركات العراقية مستبعدة عن العطاءات والمناقصات إلا الفتات، القدرات العراقية التي كانت تبني الجسور والطرق ومد الكهرباء والمياه في عهد النظام السابق مستبعدة.
الاحتلال يستعين حتى بسائقي الشاحنات من خارج العراق من جنسيات متنوعة من الفلبين والهند وباكستان وغيرها، أليس هناك عراقيون قادرون على قيادة الشاحنات، أفقرت أمريكا العراق في جانبه السياسي، وشكلت مجلس حكم جعلته ضعيفا أمام الشعب العراقي.
لم يحس الشعب بأن هناك من يمثله من خلال قوة القرارات التي تصدر عن هذا المجلس.
أحس الشعب العراقي بأنه واجهة للتحايل، وإنما القرار بيد الحاكم العسكري بريمر، والقرارات لا تمر إلا بعد أخذ موافقته، أو يستخدم الفيتو لتعطيلها، وتجلت صورة ضعف مجلس الحكم في الأحداث الأخيرة التي لم يتخذ بشأنها مجلس الحكم قرار إدانة للاحتلال على الأقل.
كل أعضاء مجلس الحكم يدعون بأنهم عانوا من نظام صدام، وأنه قتل وسجن وامتلأت القبور الجماعية بالأبرياء في عهده، ولكن أين موقفهم من جرائم الاحتلال قرابة 1000 شهيد وأكثر من 1500 جريح خلال أسبوع واحد؟ العراقيون يبحثون عن مصداقية مجلس الحكم لا بد أن يكون له وقفة واضحة تجاه العنف الأمريكي، العراقيون مطالبون بتحديد مقابر تخصص لشهدائهم من جراء الاعتداءات الأمريكية.
كل العالم شاهد على العنف الأمريكي أكثر من شهادته على قبور ضحايا النظام العراقي السابق المزعومة، لابد أن يدرك المحتل أنه محتل، وأن العراق بلد محتل، وأن الاحتلال يتطلب المقاومة، وأن من حق الشعب العراقي أن ينال حريته، وبأقصى سرعة، وخاصة أنه مرت على العراق سنة كاملة، والوضع العراقي أصبح أسوأ مما كان عليه.
لم ينل العراقيون أيا مما وعدوا به، انتقل حالهم من الرمضاء إلى النار، لم يستجر العراقيون بأمريكا إلا فئة محدودة من المعارضة، ولكن غالبية العراق رغم أنها كانت تئن من نظام صدام وجور الحصار لم تستغث بأمريكا، ولكن الشعب العراقي بالفعل نقل من رمضاء صدام إلى نار الاحتلال.
كثير من العراقين الذين ربما رحبوا بمن اعتقدوا بأنهم سيحررونهم من الظلم والجور والبطش للنظام السابق، بل إن بعضهم استقبلهم بالمصافحة والابتسامات العريضة بعد سقوط بغداد، ولكن تلك الابتسامات والترحيب لم تطل، واستفاق هؤلاء البعض من صدمة الفرحة، ولكن استفاقتهم جاءت على أزيز الرصاص والبطش، واقتحام الدبابات لبيوتهم ودور عبادتهم، ذنب هؤلاء أنهم احتجوا عبر الصحافة على نوع الظلم الجديد، وذنبهم أنهم أظهروا في مسيراتهم احتجاجات على استمرار الاحتلال واختفاء الوعود المعسولة، عندها تأكد هؤلاء أنهم انتقلوا من ظلم لفرد إلى ظلم مجموعة من المحتلين. حرصت الولايات المتحدة على ألا تكون الوحيدة المستبيحة لدماء العراقيين ولكن أشركت معها آخرين في الاحتلال، حتى يتفرق دم العراقيين، ولكنها حرصت على سفك الكمية الأكبر من دماء العراقيين.
دهست الدبابات أناسا أحياء لا يملكون سلاحا، وضربت القوات الأمريكية شخصا حتى فارق الحياة، لأنه رفض أن ينزع صورة لقائده الذي يؤمن بقيادته، وقتلت أشخاصا جرحى لا يستطيعون المقاومة، وأطلقوا على أحد العراقيين الرصاص، وهو يستغيث بمن ينقذه ويسعفه، ولا قدرة له على المقاومة ولا خوف منه، حيث أخذ مجموعة من الجنود الأمريكيين يطلقون عليه الرصاص يمنة ويسرة، حتى قتلوه، وكأنهم يتدربون على هدف، وبعد قتله بدأوا في تبادل النكات والضحكات، وهذا مثبت ومصور.
يجب أن يدرك العراقيون أنه بعد فشل الاحتلال في التفريق بينهم بأن هناك خطة جديدة ومبرمجة وهي الضرب بعنف، والتفرد بكل مدينة على حدة، فاليوم الفلوجة، وغدا بعقوبة وتكريت والأعظمية، والكوت والناصرية والكوفة وكربلاء لكي يتمكنوا من السيطرة.
ولكن لن يحصل هذا من خلال هذا العنف، ولن يتحقق الاستقرار في العراق ما لم تغير أمريكا من سياستها، وتعطي الشعب العراقي وبطريقة صحيحة حقه في إدارة أمواله وإدارة سياسته الداخلية والخارجية ودعمه اقتصاديا.
الوعد بنقل السلطة للعراقيين في30 جون ربما يتم، وربما لا بحجة الادعاء بزيادة الإرهاب، كما يسمونه، ولكن سواء تم التسليم أم لم يتم فالأمر سيكون صوريا، ولن يتغير الوضع ما لم يغير الساسة الأمريكيون سياستهم تجاه العراق، ويظهرون المصداقية في إعطاء سلطة فعلية، ويبتعدون عن المدن العراقية.
قوى الاحتلال لم تضع جدولا زمنيا في خروجها من العراق، وجعلت الأمر مفتوحا، وهذا ما يجعل العراقيين يشكون في نوايا الأمريكيين، حددت فترة نقل السلطة والانتخابات، ولكن رحيل القوات لم يحدد بل هناك عقود ببناء 14 قاعدة جديدة وإصلاح قواعد قديمة تستوعب القوات الأمريكية.
وعلى هذا الأساس فإن أمريكا ستبقى في القواعد العسكرية في العراق لمدة طويلة للسيطرة الاستراتيجية على مصادر النفط في المنطقة، وضمان تدفقه وبالطريقة التي تراها أمريكا، ولكي تضمن قربها من إيران وباكستان ودول وسط آسيا الغنية بالنفط.
سترحل أمريكا عن أفغانستان، وستستقر في العراق، وستبقي على ادعائها بأنها تحارب الإرهاب الذي تقول: إنه انتقل للعراق، عينت في أفغانستان كرزاي وأبقت على 13000 جندي، وعينت في العراق بريمر وأبقت على 135000 جندي وهو رقم قابل للزيادة.
الساسة والجيش الأمريكي فقد أخلاقيات التعامل العسكري مع من يدعي أنهم أعداؤه، بريمر والساسة الأمريكيون احتجوا واستنكروا التمثيل بالجثث من أناس ربما أنهم غوغائية، وليست منضبطة, ولكن الجيش الأمريكي يمارس أكثر من ذلك على الشعب العراقي.
منذ بدأت الحرب تجاهلت أمريكا إنسانية الشعب العراقي، تمثل هذا التجاهل في رسم 55 صورة لأشخاص يمثلون القادة العراقيين، وكان ذلك على ورق اللعب، وهذا أول إهانة ليس لهؤلاء القادة، ولكن لفئة كبيرة من الشعب العراقي سواء الأقرباء أو الموالين.
الإهانة الثانية هي تسريح كل الجيش والشرطة والأمن، وجعلهم فقراء بين يوم وليلة.
الإهانة الثالثة هي اقتحام بيوت العراقيين ليلا ونهارا وإهانتهم وانتهاك إعراضهم بضرب النساء، وانتهاك حرمات البيوت، وتفتيش النساء من قبل العسكريين الرجال دون إشراك المجندات.
الإهانة الأخطر هو تربع بريمر على عرش بلد عربي مسلم ذي حضارة عريقة رغم انه كان بالإمكان تولية شخص عراقي وبصورة مؤقتة، ويبقى بريمر مستشارا.
والإهانة الأخرى والخطيرة هو تجهيز جيش وشرطة عراقية لمواجهة المقاومة لكي يقتل العراقيون بعضهم بعضا.
نسيت أمريكا أنها تحتل العراق، وأن هناك أرضا محتلة وشعبا أبيا محتلا، وأن كل الشرائع والأعراف تعطي الحق للعراقيين في مقاومة المحتل، ولكن المحتل مصمم على إهانة الشعب العراقي وتجاهله وتجاهل تاريخه وحقه في المقاومة.
الاحتلال الأمريكي بشكل خاص يستخدم القمع والقوة المفرطة، ويقتل النساء والأطفال، وينكر ذلك علنا، ويتهم أجهزة إعلامية بالكذب، يقول متحدث باسم القوات الأمريكية في بغداد بأنه واثق من قواته بأن أحدا منهم لم يقتل مدنيا، ولا طفلا ولا شيخا، ولا امرأة في الفلوجة، وأن ما نقلته بعض وسائل الإعلام كذب وزور وظلم للقوات الأمريكية.ولعل في هذا ما يوضح السياسة الأمريكية وتصرفات جيشها، ويعطيني مؤشرات على أن كل ما قيل من تبريرات لغزو العراق مغلوطة، وأن الوعود كلها ستكون كذبا في كذب، وستتبخر مع مرور الأيام.ولكن قد يتبخر الاحتلال، ويبقى صمود العراق الذي نتمنى له أن يعوضه الله حياة مستقرة ديمقراطية مناسبة بعيدة عن دكتاتورية صدام وإهانة بوش.
|