قبل أن يدخل على الطبيب سمع أصواتاً عالية وكأنه شجار، قال في نفسه يبدو أن المريض تهجم على الطبيب وتلك مصيبة، ولكن لو كان العكس فالمصيبة أعظم. بعد ثوان صاحت الممرضة بصوت عال أيضاً، دخل ذلك الشاب النحيل على الطبيب وما أن وقعت عيناه على وجه الطبيب المتجهم حتى عرف من كان الضحية في ذلك الشجار، إنه المريض المسكين. صاحبنا غدا كأنه حمامة صغيرة ابتلت بالماء في مهب الريح لا يكاد يستطيع الوقوف. نظر إليه الطبيب من خارج نظارته السميكة بعد أن قرأ شيئا في ملفه الطبي، وقال لا فائدة من علاجك، لا فائدة في شفائك، مرضك مزمن وأنت السبب فيه وقد أهملته دون علاج وكانت النتيجة ان لا أمل في شفائك منه والى الأبد، لماذا أهملت؟، لماذا لم تهتم بصحتك حتى تمكن فيك المرض، يبدو أنك جاهل لا تميز ما يضرك وما ينفعك، أنت تتحمل كل عواقب إهمالك لأنك لم تتعود تحمل المسؤولية ولا يمكنني فعل أي شيء لك، وليس لدي دواء لذلك المرض. كل هذا والشاب لا يستطيع أن يقول شيئاً، كان قد استجمع أنفاسه ليسأل عن نوع مرضه لكن كلمات الطبيب القاسية المتلاحقة لم تدع له فرصة فخرج دون أن يعلم علته.
أخواني وأخواتي القراء. هل أصابتكم الكآبة من فظاظة ذلك الطبيب؟، أعلم أنكم غضبتم منه وتودون أن تعرفوا عنوانه لتلقنوه درساً في التعامل، وخوفي أن تلقنوني أنا ذلك الدرس أيضاً، لأني لم أرَ حقيقة الحادثة تلك في عيادة ولم يفعلها طبيب، ولكني رأيتها في عيادة الحياة اليومية، وهو ما يفعله بعض الوالدين مع أبنائهم وبناتهم عندما يحدث منهم تقصير ولو كان صغيراً، لدرجة أن أولئك الفتيان لا يكادون يميزون الخطأ الفادح من الصغير لأن التوبيخ (التهزيئي) يكون بنفس الدرجة.
يقول أحدهم: شباب هذه الأيام ما فيهم خير، همهم جولاتهم والأفلام والألعاب والسيارات، يعرفون كل أخبار الفن والمغنين والرياضة ولكنهم يعجزون عن مذاكرة صفحتين. عيونهم مسمرة على شاشات الانترنت الهامشية، تجدهم في المقاهي (شيشة وتدخين)، همتهم ضعيفة لا تتعدى مكان أقدامهم، ولا تكاد تفرق بعضهم من البنات.
قال الآخر: لا هذا بسيط، لكن الطامة الكبرى البنات، ألم ترَ كيف يمشين متمايلات ببناطيل الجينز الزرقاء في الأسواق، تمشي إحداهن وكأنها تمشي على ماء، ولو تسألها عن أبسط المعلومات الضرورية في الحياة لا تعرف الجواب، هي شكل خارجي فقط، ما تعرف حتى عمل القهوة، لو ترى أظافرها وألوانها، والله يعينك على فاتورة جوالها نهاية كل شهر، ولو وجهتها لأي شيء (نطت في حلقك)، تنسى كل ما عملت من أجلها، دائما مكتئبة. وما أدراك عن الوضع الصحي فنصف بناتنا سمان ونصفهن نحاف جداً، وفي كلا الحالين، لياقتهن ضعيفة وأكلهن الرئيسي وجبات سريعة.
في البيت شجار لا ينتهي، الكل يفرد عضلاته على الكل، كيف تريدنا أن نعيش في ذلك الجو، ونعدل ماذا وندع ماذا؟
تخيلوا من كان يحمل هذا التصور كيف سيتعامل مع أبنائه وبناته، وكيف سيتحمل منهم أي خطأ قد يكون وقع فيه هو في شبابه، وكيف سيجرؤ ذلك الفتى أو تلك البنت على مناقشة أمها أو أبيها إذا كان أحدهم بهذه النفسية، بل إن بعض الأمهات تصبّح ابنتها وتمسيها بكل ألقاب التهكم فهي السمينة (الدبة) التي لن يتزوجها أحد (من يبيها؟)، وهي الفاشلة في دراستها والتي لا تعرف طريق المطبخ، وهي سيئة الخلق التي ترد على أمها بكل بساطة.
بكل صراحة نحن نجيد الانتقاد، فالغالب ينتقد والقليل يشجع، حتى الطلاب ينتقدون زملاءهم في الدفعة التالية ويعتقدون أنهم لا يستحقون حتى النجاح، والمدرس يردد آه يوم كنا طلابا كيف كنا مبدعين أما طالب اليوم فلا يجيد حتى الكتابة الصحيحة... أرجو ألا يقول أحدكم هذا هو الحق!!
لا أحد منا يشك في حرص الوالدين على أبنائهم ولا الأساتذة والمعلمات على طلابهم وطالباتهن، لكن قد يخونهم الأسلوب أحياناً ويستعجلون النتائج أحيانا أخرى.
ما رأيكم أن نحول ما تعرفونه من أساليب تربوية سليمة إلى واقع عملي ملموس ولو لمدة قصيرة، أسبوع أو أسبوعين مثلاً، وسترون نتيجته إيجابية وستذهلكم سرعة تجاوب الكثيرين من شبابنا وشاباتنا لما تريدون وبدقة، وأنا متأكد تماماً من أنهم لن يخذلوكم في ذلك وستجدون منهم ما يسركم بمشيئة الله تعالى وهو همكم الأول، فيها الى البرنامج.
صباح الأيام الأولى: السلام عليكم، صباح الخير والسرور يابني، هيا يا بطل.. اشتقت إليك... صباح الفل يا بنيتي الحبيبة الرائعة، ما شاء الله عليكم.
في الظهر: ابتسامة على الغداء. مع منع النزاعات بين الأبناء وإيضاح أن الاعتداء ممنوع دائماً.
في المساء: لن أشرب القهوة إلا من يدي بنيتي الغالية... ولن آكل فاكهة إلا من شراء ابني الموهوب. حفظهم الله ورعاهم. أنا محظوظ أن وهبني الله هؤلاء الأبناء.
لا تنتقدوا ما يعملانه أبداً واشربوا القهوة ولو كانت كما تريدون تماماً، وامتدحوا الفواكه التي اشتراها وأظنها ستكون جيدة، فهم سيرون الجواب الحقيقي واضحاً في عينيك.
في الأيام التالية: واصلوا الدعم واغفروا الزلات البسيطة وكأنكم لم تسمعوا ولم تشاهدوا، زيدوا في الحوار الهادئ واسألوا كل واحد عما هو متميز فيه، مثلاً ان كان لدى أحدهم تعثر دراسي فلا تناقشوا الدراسة أبداً في ذلك المجلس مطلقاً، ولضيق المساحة اقتصرت على تلك الأمثلة.
كثير ممن طبق هذه الطريقة وتحكم في أعصابه لمدة يسيرة نجح نجاحاً مذهلا في تغيير الجو الكئيب في بعض البيوت أو الفصول الدراسية. وكل ما أتمناه أن تشارك هذه الكلمات في سعادة ولو أسرة واحدة واعتقد أنكم أيها الآباء والأمهات والمربون أطباء حاذقون يسهل عليكم علاج كل الأمراض المستعصية، بعد عون الله وبذل الأسباب.
إضاءة
قالت تلك الفتاة الرائعة: نحتاج إلى من يفهمنا لا إلى من يقيمنا دائماً.
(*) استشاري التغذية الاكلينيكية
فاكس 4355010 تحويلة 386 |