قال الله تعالى:
{الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (1).
إن للإسلام إشارات تشير إليه، وإن للإيمان علامات تدل عليه، فليس كل من زعم الإيمان كان مؤمنا، وليس كل من ادعى الإسلام كان مسلما {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(2).
فمن علامات الإيمان القيام بوظائف الطاعات، والعمل بمقتضى الإسلام، والاحتكام إلى الله والرسول.. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(3).
ومن علامات الإيمان أن تؤمن بشريعة الإسلام ككل لا يتجزأ من عقائد ومعاملات وأخلاق.. فلا يصح في دين الله أن يأخذ المسلم ببعض الأحكام الإسلامية ويترك بعضها بل من الضلال والكفر أن يؤمن ببعض المبادئ، ويكفر بالبعض الآخر {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}(4).
ومن علامات الإيمان الصبر على المصائب، والتجلد أمام الأحداث {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(5).
فيؤخذ من هذا كله أنه لا يمكن أن يتميز المؤمن من المنافق، والمخلص من المرائي والصابر من الجزوع، وقوي الإيمان من ضعيفه.. إلا أن يمر بمرحلة التجربة، ويدخل قاعة الامتحان، فعندئذ تظهر الحقيقة الواضحة إن كان صادقا بدعوى الإيمان أو كان كاذبا..
وإن من أعظم مواد الامتحان التي تظهر حقائق الرجال وتبين مواقف الأبطال هي الصبر على الأذى والابتلاء في سبيل الله.
فكثير من الذين لا يفهمون حقائق الإسلام يفضلون أن يصلوا في اليوم مائة ركعة، ويذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم.. ولكن ليس عندهم أي استعداد لأن يتجلدوا للمصائب، وأن يصبروا على الأذى في سبيل الله ولو لحظة، وإذا أوذوا فضجروا وانهزموا وقعدوا في بيوتهم مع القاعدين {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }(6).
ونحن إن اطلعنا على كتاب الله، ونقبنا عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدها ناطقة بأحسن بيان بأن رضاء الله ودخول الجنة لا يكون بعمل الطاعات والعبادات فحسب، ولا يكون باتباع الحلال واجتناب الحرام وكفى، وإنما يدخل فيه كذلك الجهاد في سبيل الله، والصبر على المحن والشدائد، ومقاومة الظلم والظالمين.
فمن الآيات: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(7) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(8).
ومن الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
(يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)(9).
وحينما شكا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يلقونه من أذى المشركين واضطهادهم نزلت هذه الآية {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(10)، نزلت تبين للمؤمنين جميعا أن الإيمان لا تظهر حقيقته، ولا يتم في الفؤاد رسوخه إلا إذا مروا بمرحلة التجربة، وثبتوا على الأذى، وجاهدوا في الله حق جهاده.. وهذه السنة ليست خاصة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما تشمل المؤمنين جميعا في كل العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولما اشتد إيذاء قريش على ضعفاء المؤمنين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة يقولون:
ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا!. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) (11).
ولما علم الصحابة رضي الله عنهم حقيقة الإيمان من محمد صلى الله عليه وسلم أعدوا للصبر نفوسا مؤمنة لا تجزع أمام أحداث الليالي، وقلوبا راسخة صامدة لا ترتعد من نوازل الزمن.
لهذا رأيناهم بعد أن فهموا رسالة المسلم، وواجبه الأقدس في إعلاء كلمة الله انطلقوا في ميادين الدعوة إلى الله غير عابئين ما يعترضهم من عقبات وغير مكترثين ما يلقونه من مصائب وأهوال.
وحسبنا الآن أن نذكر بعض الأمثلة من أمجاد صحابة محمد عليه الصلاة والسلام من أذى واضطهاد في سبيل الرسالة الإسلامية عسانا أن ننهج نهجهم ونمشي في الدرب الذي ساروا فيه.. لتحيا في الكون دعوتنا وتعود لنا كرامتنا وعزتنا.
فهذا بلال المؤمن الصابر لقي في سبيل الدعوة ألوانا من العذاب، وأصنافا من البلاء، فكلما اشتدت عليه وطأة الإثم ونزلت به الاحن السود، ووضعت على بطنه الحجارة الثقيلة في وهج الظهيرة المحرق ازداد إيمانا تثبيتا، وهتف من الأعماق: أحد أحد، فرد صمد.
وهذا عمار، وأمه سمية، وأبوه ياسر رضي الله عنهم قد تحملوا في سبيل إسلامهم ما لم يتحمله إنسان، وما إن علم بنو مخزوم بإسلامهم حتى انقضوا عليهم يذيقونهم أشد العذاب، ليفتنوهم عن دينهم، ويرجعوهم كفارا بعد أن هداهم الله.
وفي بطحاء مكة حيث ترسل الشمس شواظا من لهب، قضى آل ياسر أياما في عذاب مقيم.. ومر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون وسمع ياسر يئن في قيوده وهو يقول: (الدهر هكذا) فنظر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى السماء ونادى (أبشروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
وسمع آل ياسر هذا النداء، فهدأت نفوسهم وسكنت، فلما أتاهم أبو جهل لعنه الله، كان استهزاؤهم بالموت، وعلوهم على الحياة أعظم ما رأى الناس لقد استشهدت (سمية) وكانت أول شهيدة في الإسلام، ثم تبعها ياسر وكان أول من استشهد من الرجال، وبقي عمار يغالب العذاب، ويصابر الألم حتى بلغ به الجهد مبلغه وهكذا يجب أن يكون الرجال.
وكان أحدهم حينما يكون في قلب المعركة يتنسم عبير الجنة ويجد في الدنيا ريحها.. فلا يرى بدا إلا أن يهتف من الأعماق فرحا واستبشارا: ألا هبي ريح الجنة، ألا هبي ريح الجنة.
وكان أحدهم حين يقع على الموت، أو يقع الموت عليه فلا يجد بدا إلا أن ينشد:
ولست بمبد للعدو تخشعا
ولا جزعا إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
والله لو لم يكن لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلا هذه المواقف لكفتهم على مدى الدهر شرفا وفخرا وخلودا.
هكذا الإيمان يصنع العجائب حين تخالط بشاشته القلوب.. فما أحوجنا إلى هذه النوعية من الإيمان لنبني في الحياة صرح المجد والحضارة ونعيد إلى الدنيا دولة الإسلام العتيدة.
يا شباب الإسلام: في أعناقكم مسؤوليات جسام، وعليكم واجبات عظام تجاه رسالة الإسلام ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام، لا تظنوا أن النصر بالأمر الهين اليسير وأن الطريق محفوفة بالورود والرياحين، وإنما يتطلب منكم الواجب أن تضحوا في سبيل الله كل رخيص وغال، وأن تتحملوا في سبيل الإسلام كل المصائب والأهوال.
ارفعوا أبصاركم إلى السماء اربطوا قلوبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، سيروا في مواكب الجهاد، اسلكوا دروب النضال، لا تغرنكم هذه الحياة الفانية، لا تخدعنكم هذه المظاهر الكاذبة، لا يرهبنكم تهديد ولا وعيد، لا تهولنكم الصواعق ولا الرعود، امضوا على بركة الله فإنها إحدى الحسنيين: إما نصر لتعيشوا أعزاء وإما قتل لتموتوا شهداء.
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
عن (الشهاب اللبنانية)
1- العنكبوت 1-2
2- البقرة 7-10
3- آل عمران 100
4- البقرة 85
5- البقرة 155
6- العنكبوت 10
7- آل عمران 143
8- البقرة 214
9- رواه البخاري ومسلم.
10- العنكبوت 1
11- رواه البخاري.
الابتلاء في سبيل الله
|