- يحسن بنا، ونحن في لجة من مخاضات أُذن لها أن تقلب الأوضاع العالمية رأساً على عقب استبعاد الافتعال والانفعال، وقصر الحديث على التناول الموضوعي والبحث المعرفي، بعيداً عن صخب الخطابات التنصلية، ومآزق التزكية الذاتية، والانحاء باللائمة على الآخر، دون مصلحة أو برهان. ومتى اعتمدنا في تناولاتنا تبادل الاتهامات، وممارسة الإقصاء والإدانات، زدنا الوضع تعقيداً والحل استحالةً، وانفض سامرنا بوضع أشد انغلاقاً مما سلف، والمؤتمرات العالمية حين تقارب ظاهرة كالإرهاب، يحسن بها تجسير الفجوات وتجفيف المستنقعات، وأحسب أن أوضاع العالم المتوترة تستدعي الكلم الطيب، والقول السديد، والدفع بالتي هي أحسن، استجابةً لأمر الله:{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ومتى كان التعايش السلمي ممكناً فإن المصير الى ما سواه جناية بحق البشرية فوق أي أرض وتحت أي سماء وعلى أي ملة:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، والدين الإسلامي أقدر الاديان على وضع الحلول السليمة للأزمات المستعصية، وتوفير أجواء تحقق للإنسانية العيش الكريم، وكيف تتأزم الأمور في ظله؟ وهو لا ينهى عن البر والقسط لكل مخالف في العقيدة، ما لم يقاتل في الدين خاصة، أو يخرج المسلمين من ديارهم، أو يظاهر عليهم الأعداء والمحاربين، وما لم ينبذ المسلمون إليهم على سواء، ولن تتأتى الرغبات المشتركة إلا إذا حررنا مسائلنا، وقاربنا بين مفاهيمنا حول القضايا المشتركة، وحددنا مصادرها، ورسمنا أساليب مواجهتها، ومتى توخت الحضارات العدل والصدق، ووفرت الحقوق، ووحدت المواقف والمكاييل، أمكن الانتقال من الصدام إلى الحوار، ومن التناحر الى التعاذر، ومن التناوش إلى التعايش. ومجموع تلك الهموم الممكنة تتشكل منها تلك المقاربة الحذرة.
- ولما كنا نود الحديث عن إشكاليات الإرهاب المتمثلة باختلاف المفاهيم وتعدد الأسباب وتنوع الانتماءات وأساليب المواجهة، اقتضى التناول المعرفي السليم تعريف كل مفردة بما يقربها الى الطرف الآخر، فإذا استقرت في الأذهان استقراراً معرفياً عقلانياً أمكن النفاذ الى صلب الإشكاليات، لتصورها أولاً، ثم اتخاذ أجدى الحلول وأهداها وأيسرها، وسوف يكون حديثنا عن المفاهيم والأسباب أولاً ثم نفيض الى سائر الإشكاليات، ولأن لكل طائفة من الأناسي والمفكرين والساسة رؤيتها وموقفها ومرجعيتها، فإن من أوجب الواجبات استكناه الرؤى والتصورات وحدود المرجعيات، ومحاولة التماس القواسم المشتركة والانطلاق منها، وحديثنا يمتد الى كلمات: تعريفية وإجرائية: ك ( الإرهاب)، ومفاهيمه و( الأسباب) وتعددها و( الانتماءات) وتنوعها و( المواجهات) وأشكالها، وتلك حيازات دلالية واجرائية، تتداخل كالدوائر، وتفترق كالمتوازيات، فما الإرهاب بوصفه ظاهرة؟ وما هو بوصفه فعلاً إجرائياً يمس أطرافاً معينين، ويقوم به أطراف معينون، ويقع في ظل ظروف معينة؟ ثم: ما الأسباب؟، والإشكالية ليست قصراً على تعريف جامع مانع، يتفق عليه كل الأطراف، وإنما هي في توحيد المواقف وتجنيس المواجهات، وأخشى ما أخشاه أن يتحول الإرهاب من مُفْرز لعبة الى لعبة مستقلة.
وكل التساؤلات عن الظاهرة وأسبابها مشروعة لكل طالب حق يطرحها بين يدي حديثه عن الإرهاب، ومن أراد إطفاء لظى الفتن لزمه التحري والتحسس عن وجوه الالتقاء، وهي ممكنة عندما يجنح الجميع إلى السلام لا الى الاستسلام. ومعضلات المفهوم أنها مرتبطة بالأزمنة والأمكنة والأحوال والمنفذين والمتضررين، وحين تخترق تلك المعضلات سدة المصطلح، لا يكون كما يجب جامعاً مانعاً، لاضطراب أحوال المتجادلين حوله، بحيث يتعذر الخروج بمفهوم جمعي، ولكن اليأس لا يمنع من زحزحة المشكل، ليقترب من فرصة الحوار، وقد يؤدي الحوار الحضاري الى تنازلات جزئية، لا تمس جوهر المفاهيم، ولكنها توفر أرضية مشتركة، تقترب بالمفهوم من هامش الاتفاق أو التعاذر، وعندها تمتلك الأطراف المعنية فرصة الخلوص من دوامة الاختلاف المعمق للظاهرة، والإرهاب بوصفه ممارسة غير منتمية مسَّ العالم كله بالضر، ولما تزل كل أمة معرضة لمزيد من الممارسات الإرهابية، ذلك أنه آلية لتصفية الحسابات بين الدول والأحزاب والطوائف والأعراق والحضارات، حفز إليه تعذر المواجهة العسكرية لحسم المواقف، كما أسهمت في تشكله المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق وأغرى به تنازع السلطات، وعمليات الإقصاء والمصادرة، وتلاحق الثورات الدموية، وإخفاق كل المشاريع الوحدوية والقومية والحزبية، وتجذر الانهزامية، وخيبة الأمل، ولربما أشعل فتيل الإرهاب تصادم المصالح، وتعارض الأهداف، وعدم توازن القوى وتعددها، والوقوع في إشكاليات القطب الواحد، وتفكك كيانات تنطوي على ( إثنيات)، وطائفيات وإقليميات، كل واحدة منها ترى أحقيتها بالاستقلال أو بالسلطة، مع عجز واضح وانحياز مكشوف للقوى القادرة على ضبط الإيقاع العالمي، ووقوع العالم في المتناقضات، التي أملتها اللعب وتناقض خطاباتها، فالإرهاب :- وضع العنف موضع الحوار، والهوان:- وضع الحوار موضع الدفاع المشروع، فإذا أمكن الحوار فلا مناص منه، وإذا قامت السلطة المشروعة العادلة الرفيقة فلا مقاومة، ومن مارس أحد النقيضين من عند نفسه، أسقط الأمة في الفتنة أو الذلة، ( والفتنة أشد من القتل).
- وتصور الظاهرة يسبق الحكم عليها، والخلفيات المعرفية والثقافية والفكرية لا تمكن الباحث من الاستعانة بنظرية معرفية بريئة، وقراءة الأشياء من درجة الصفر مستحيلة وغير مشروعة، والمعضلة في صدق النوايا وسلامة التوجهات، وليست في تعدد التعريفات، ومع ذلك لو عدنا الى مفهوم ( الإرهاب) في ظل كل هذه التوقعات، ومن خلال منظور إسلامي لوجدناه موازياً لمفهوم ( الردع)، فالدول الكبرى حين تخوض سباق التسلح وحرب النجوم، وحين تمتلك وزارات الدفاع عندها أخطر المعامل والمختبرات والتجارب الجرثومية والكيميائية والنووية فإنما تريد أن تكون مهيبة الجانب، وذلك ما حث القرآن عليه أمة الإسلام {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولم يكن الإرهاب بوصفه من مصطلحات الإسلام ممارسة فعلية للقتل العشوائي والتدمير الشامل، وإنما يعني الإخافة والردع، وليس المصطلح بمفهومه الإسلامي مرتبطاً بمفهومه الغربي المعاصر. و(الرهبة) تكون محمدة عندما تكون من العبد لربه، وقد أمر بها القرآن (فإياي فارهبون) و( وإياي فارهبون) وتكون مذمة من جانب المخلوق المبطل للمخلوق المتردد (واسترهبوهم) ومحمدة من جانب المخلوق المحق للمخلوق المبطل ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله).
و( الرهبة) و( الرهبان) مصطلحات دينية لديانات سلفت، والإسلام له مفهومه إزاءها، فهو يحفظ التوازن بين ( الرهب) و( الرغب)، و( الرجاء) و(اليأس) فلا رهبة دون رغبة، ولا يأس دون رجاء، وعقيدة السلف الصالح الوقاف عند الحدود وسط بين الخوف والرجاء. و(الإرهاب) بالقوة حين يقابل ( الردع) يكون مشروعاً وحقاً مشاعاً بين الحضارات، لتحقيق سنة التدافع، ولولاها لهدمت صوامع وبيع ومساجد، ومن وفر قوة الردع لنفسه، وحققها على مرأى ومسمع من الناس، فليس من حقه أن يحظرها على غيره، وما تمارسه الحضارة الغربية المتغطرسة من حظر للتسلح المتكافئ، يصل حد المحاصرة، والتدخل السافر في شؤون الغير مظنة ( الإرهاب) التدميري، الذي تحاربه كل الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية. والذين يجعلون ( الجهاد) إرهاباً، يحملون المفهوم ما لا يحتمل، و( الجهاد) حين يكون ذروة سنام الإسلام في ظل تسامحه وجنوحه للسلام، لا يتسع للمفاهيم التي يتداولها المغرضون، ولما كان الإرهاب ذروة الغلو والتطرف، كان لابد من معرفة الدركات المؤدية إليه.
ف ( الغلو) ظاهرة عرفتها كل الديانات، ولقد ظهر مصطلح ( الغلو) المنهي عنه بالنص القرآني عند بعض الطوائف الإسلامية، ولا تخلو طائفة إسلامية من غلاة لا يمثلون ( الوسطية) في الطائفة، ومع أن النص القرآني نهى أهل الكتاب عنه مرتين فإنه بحق المسلمين أولى، غير أن الغلاة لا يقرون بالغلو، والناقد المنصف يجب عليه ألا يحمل أي مذهب إسلامي ما يمارسه المتطرفون فيه، فضلاً عن أن يحمل الإسلام مسؤولية الإرهاب، والمتقصي لتاريخ الملل والنحل يجد أن لكل نحلة طرفين ووسطا، والإسلام حث على الوسطية، ونهى عن الغلو.
والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالإيغال الرفيق في الدين، والمتعاملون مع الطوائف أو الدارسون لها يجب أن يكونوا عدولاً، بحيث لا يداهنون، ولا يتحاملون، ولا يغضون الطرف عن تجاوزات لا يحتملها النص، فالمتأول المخطئ يختلف عن المخالف المتعمد للمقتضى القطعي، والمستغل للنص الحمَّال يختلف عمن يلوي عنق النص ليوافق هواه، وليس هناك ما يمنع من المداراة التي تكفل التعايش والتعاذر، وهي رخصة لا عزيمة، ولهذا قال الله تعالي في أعقابها :( ويحذركم الله نفسه)، وكم هو الفرق بين المداهنة والمداراة والتعامل والموالاة، وليس من مصلحة الأمة التعذير، ولكن مصلحتها رهينة التعايش والاشتغال في المساحات المشتركة، فالزمن لا يحتمل مزيداً من التنازع، ولما كان الغلو والتطرف والتكفير بيئة مناسبة لنشوء الإرهاب، كان لابد من تحديد دقيق لهذه المفاهيم، ذلك أن الاختلاف المتناقض حول المفاهيم هو الآخر يؤدي الى العنف والإرهاب.
فما حقيقة الغلو والتطرف بوصفهما من بوادر الإرهاب؟ وما معيارهما؟ أحسب أنهما يعنيان طرفي الظاهرة ، ف ( الغلو) و( التسيب) طرفان، فيما يكون ( الاعتدال) وسطيا, وحديث الناس يكثر عن التطرف الغلو والإفراط، فيما لا نجد من يتحدث عن التطرف المقابل، وهو (التفريط) ، والحديث عن ( الغلو) يعني نصف الحقيقة، فالمتشدد المتنطع المضيق على الناس المعول على سد الذرائع في تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق لا يقل إيذاء عن الذي فرط في جنب الله، ممن يقبل خطاب العهر والكفر، ويوالي كل خائض في آيات الله بغير علم باسم حرية التعبير، فالتفريط قد ينشئ التطرف على سبيل الفعل ورد الفعل . ف (المرأة) المتبرجة الكاسية العارية المائلة المميلة الفاتنة، تحمل المتشددين على مواجهة التبذل بالغلو والتطرف، ومثلها ( المتعلمن) المستفز و( الحداثوي) المدنس للمقدس، ومن خلل المفاهيم الانحاء باللائمة على ( المتشدد) في الدين، وغض الطرف عن الفاتنة والمستفز، وليست حال( المتنطع) و( المتميع) بأسوأ حالاً من المتعصب لمذهبه، المعطل للاجتهاد، وعلى كل الأحوال، فإن الرد الى الله ورسوله يحتاج الى فهم سليم للنصوص على ضوء المقاصد الإسلامية، وآليات تفكيك البنى الدلالية، كما هي عند علماء اللغة.
والخلط العجيب أو الميل لجانب دون آخر عمَّى على الناس فهم الأشياء على حقيقتها، فلو سئلوا: ما الإرهاب؟ لما اتفق اثنان على تعريف جامع مانع له، واختلاف الناس قائم على الرغم من توفرهم على كل ما يتداول من قول حول تلك الظاهرة.
ولأن مفهوم الإرهاب تحول إلى إشكالية معقدة، فإن الناس رضوا بالتوصيف لا بالتعريف، والتوصيف مرتبط بذات الحدث لا بذات الظاهرة، ولو قيل في تعريفه :( إنه ممارسة العنف ضد من لا يستحقه ممن ليس يملك حقه).
لكان أن جاء من يضع المحاذير، ومما يعمق الإشكالية تعدد مثيرات الإرهاب، اذ إن لكل مثير حيثياته ومغايرته، فالمثير السياسي أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الفكري، أو الديني، أو غير ذلك، يختلف عما سواه، وباختلاف المثير يختلف المفهوم والموقف، وحتى لو مارسنا التجريد، ونظرنا إلى الإرهاب من درجة الصفر، لكان أن واجهتنا إشكاليا أخرى، ترتبط بالمثيرات والحواضن، وذلك كله لا يمنع من أن نشير الى المفاهيم العامة التي تقترب بالإرهاب من التجريد.
فالمنصفون يرون أنه ليس مرتبطاً بفكر معين، ولا بظرف زماني أو مكاني محدد، ولا بجنس مخصوص أو حضارة معينة، وحين يكون فئوياً تكون له أسباب عارضة: ذاتية أو خارجية، لا يستطيع المنصفون إنكارها. فالتسلط والكبت والاحتلال والاستبداد وسلب الحريات وفرض المبادئ والحزبيات وحكم الطائفة أو العرق والفقر والبطالة والأثرة ومواطأة المغتصب الظالم ومساعدته والإخفاقات المستمرة للمشاريع الثورية، وغياب الدستور، وتعثر السلطة المشروعة كل هذه أسباب محرضة، ولكل سبب مفهومه وحيثياته، وهنا يمكن القول: بأن التصدي للظلم ومقاومة الاحتلال لا يعد إرهاباً بالمفهوم المتداول، ومما يشكل عقبة في التفريق بين ( الإرهاب) و( المقاومة) تعارض القوانين والاتفاقات الدولية مع بعض الممارسات، ولو أخذنا على سبيل المثال- القضية الفلسطينية- لوجدناها الأكثر خلطاً للأوراق، فإذا كانت القضية عادلة والمقاومة مشروعة، فليس معنى هذا أن نجعل كل عملية من العمل الفدائي المشروع، فالفدائي قد يفجر نفسه بين أخلاط من الديانات والجنسيات، ممن لا يعدون من المحاربين، وقد يمارس الفعل في زمن الاتفاق على تصفية الخلافات، مع أن عملية الانتحار قضية خلافية، وقد لا تكون من الاختلاف المعتبر.
|