إذا وُضع الخلُّ على العسل أفسده، وإذا وُضِعَ الخُلُق السيئِّ، على عمل ابن آدم أفسده، والجامع بين الخَلِّ بمادَّته القابضة الشديدة، وبين سوء الخُلُق بما فيه من فَظاظة وقسوة هو الإفساد في كلِّ واحدٍ منهما حينما يُوضَعان على شيء حُلْوٍ صالحٍ جميل، إنَّها صورة البلاغة حينما تقرّب منّا البعيد، وتكشف لنا المعنى المراد بإبداعٍ وإمتاع.
حينما يصبح هَمُّ الإنسان الإساءة إلى الآخرين بقولٍ أو فعل، فإن ذلك يعني أن فساداً قد تسرَّب إلى قلبه، وخرَّب بناء الإحسان فيه، وأفسد ما كان صالحاً من مشاعره، وفي ذلك من الخطر على الإنسان ما يستدعي مراجعة النفس، وتقويم السلوك قبل فوات الأوان.
في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديثٌ حَسَنٌ صحَّحه الألباني رحمه الله يصلح أن يكون نبراساً لنا في حياتنا، وأن يكتب في لوحاتٍ كبيرة تراها عيون الناس حين يغدون وحين يروحون، لأنَّ فيه من العلاج لحالات الحسد والحقد والبغضاء، وسوء النِّية، وخُبْث الطويَّة، ما يجعله حديثاً جديراً بالعناية والاهتمام.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلََّم: أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفَعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديْناً، أو يطرد عنه جوعاً، وَلأَنْ أمشي مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً - يعني المسجد النبوي -، ومن كَفَّ غضبه ستر الله عورتَه، ومَنْ كظم غيظه ولو شاء أنْ يُمْضِيَه أَمْضَاه ملأ اللهُ قلبه رجاءً يوم القيامة، ومَنْ مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيَّأ له أَثْبَتَ اللهُ قدمَه يوم تزول الأقدام (وإنَّ سوء الخلق يُفسد العمل، كما يُفسد الخلُّ العسل).
هذا الحديث الشريفٌ كنزٌ من أثمن كنوز السنة النبوية، وثروةٌ من أعظم ثروات العلم النافع، فهو منهجٌ للحياة المستقرة الصَّافية البعيدة عن نزغات الشيطان، وخطرات النفس الأمَّارة بالسوء.وهو قانون واضح للحياة البشرية المستقيمة التي ينفع فيها الناس بعضهم، ويدخلون فيها السرور على قلوبهم بما يبذلونه من المودة والمحبة والنصيحة لبعضهم، وبما يكشفون به كربة المكروب منهم، وما يقضونه من ديْن المَدين، وما يطعمون به الجائع.
هذا الحديث الشريف يرسم صورة مضيئة للمجتمع المتكاتف المتعاون، القائم على الصَّفاء والنقاء، المجتمع الذي يكون أحبّ الناس فيه إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، أنفعهم؟ نعم.. النَّفع بمعناه الشامل الكامل معنويَّاً ومادياً، ولذلك كان مشيُ الإنسان في حاجة أخيه الإنسان أفضلَ، وأعظمَ أجراً من الاعتكاف في المسجد النبوي في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، وإنَّ ذلك لفضل عظيم لا يفرِّط فيه الا غافل.وحتى تكتمل صورة المجتمع المسلم القائم على المودة والإخاء والمحبة، أورد الحديث الشريف عدداً من الصفات (الجليلة) التي ترسم ملامح المجتمع السليم، فكَفُّ الغضب فضيلة، وكَظْمُ الغيظ مع استطاعة الانتقام عمل جليل، والمشي في حاجة الإنسان المحتاج في الدنيا سبيل لثبات القدم يوم القيامة، وهذه المنظومة الذهبية هي منظومة حسن الخلق.أما سوء الخلق فهو محصور في صورة واحدة منفِّرة ألا وهي صورة الخَلِّ الذي يفسد العسل، فما أعظم الحديث، وما أفصح قائله عليه الصلاة والسلام.
إشارة:
أنتم بمنهجكم أعزُّ مكانة
من كل ما يدعو إليه مخرِّف |
|