* بدءاً، أُهدي التأملات إلى معالي الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل، الذي استهل ولايته الجديدة قبل أيام بكلمات مشحونة بالعزم والحزم والتفاؤل، واعداً بالتصدي لمعضلات العمالة بحديها؛ المحلي والوافد. وليس غريباً ما قاله معاليه أو ما وعد به في هذا السبيل، وذاكرة الوطن شاهدة على سيرة معاليه منذ نحو ثلاثين عاماً، فهو يعني ما يقول، ثم يفعل فينجز، معتمداً على الله، ثم ثقة ودعم أُولي الأمر الكرام.
***
أما بعد..
فإنَّ بلادنا تعاني من تراكم العمالة الوافدة بأعداد قياسية، تنتشر في حواضرها وبواديها، وسهولها وجبالها، تصطاد فرص العمل حيثما وجدت، وبأي أجر كوفئت به، وتلتهم شريحة كبيرة من الدخل، يتحول معظمها إلى عُملات صعبة تغزو قارات الأرض. ولو كانت الحاجة فعلية لهذه الفئة من العمالة، أو كان بقاءُ بعضها في البلاد مشروعاً، لهان الأمر قليلاً.
***
* لكن المعضلة محل البحث تتقاسمها ظاهرتان:
* (أ) ظاهرة (التخلف) بحديه الزماني والمكاني الذي يعقب المواسم الدينية، وينجم عنه بقاء آلاف من الحجاج والمعتمرين، (تستضيفهم) سفوح الجبال أو بطون الأودية أو الحواري الضيقة في المدن والقرى، وقد يكون المواطن طرفاً مباشراً أو غير مباشر فيها تستراً، وتلك محنة كبرى!
***
(ب) وظاهرة (التخلف) بمفهومه الأخلاقي، حين تُستقدم تلك العمالة إلى البلاد بكفالات ومؤهلات عشوائية، ثم يُطلق لها العنان تسابق الريح عبر شوارع وحواري المدن والقرى، طلباً للرزق، وتُجبى من أفرادها (إتاوات) شهرية أو سنوية من لدن كفلائها، بغض النظر عن (آلية) كسب الرزق ومصدره، وتلك وربي أم المحن!
***
* والمتأمل لشرائح هذه الفئة من (العمالة الوافدة) يستنتج من غير عسر أن معظم أفرادها غير مؤهلين تأهيلاً نادراً تفتقر إليه البلاد، ورغم ذلك يزداد عددهم، خاصة في أعقاب كل موسم حج أو عمرة.. مشكلين بذلك عبئاً وتحدياً شاقين لكل الجهات المعنية بهم، أمنية أو غير أمنية!
***
* هنا.. يتساءل المرء بمرارة: مَن المسؤول عن ظاهرة تراكم العمالة السائبة، المقيم منها إقامة مشروعة والمتخلف؟ أهو العامل نفسه، أم الجهات الرسمية وشبه الرسمية المعنية بمتابعته؟ والرد على ذلك لا يستثني أحداً من التبعة، لكنَّ للقضية طرفاً ثالثاً يستوي مع الأطراف الأخرى إن لم يفُقْها أهمية، ذلكم هو المواطن، حين يوظف ذمته وضميره وولاءه لبلاده، فيستقدم من العمالة ما لا يحتاج، ويسعى إلى ابتزازها مادياً، أو يتستر على وافد مُنح فرصة القدوم إلى البلاد لأداء شعيرة دينية ولا شيء سواها!
***
* إذن، فالمواطن شريك أساسي في استشراء هذه الظاهرة، ولن يعفيه من الوزر ادعاء الجهل بالأنظمة، لأن إيواء وافد لا يملك مسوغ الإقامة غير المشروعة أمر لا يتطلب دهاءً ولا علماً ولا خبرة، والإحساس بضرر هذا الإجراء أمر يدخل ضمن بديهيات المواطنة الحسنة، والانتماء السوي إلى الوطن، ويستوي في ذلك وزراً استقدام عمالة بقصد ابتزازها مادياً!
***
* إن العقوبات التي سنتها الدولة -أيدها الله- لاحتواء ظاهرة العمالة السائبة لم تدع أحداً إلا شملته، بدءاً بالمتستِّر أو الكفيل، وانتهاءً بالوافد نفسه، لكنَّ للمواطن دوراً مسانداً يجب أن يُعين الدولة، ولا يعين عليها، والردع وحده لا يفي بالغرض، رغم أهميته القصوى، ما لم يسنده وعي المواطن وتعاونه، فلا يعين مسيئاً على سُوئه!
***
وختاماً..
* أختم هذا الحديث بخاطرتين:
الأولى:
* إن المواطن طرف مصيري في المعالجة المقلقة التي يشكو من آثارها الوطن وأهله، عاماً إثر عام.. وهي مشكلة استقدام العمالة بقصد (الكسب) من كدها، أو التستر على تخلف حاج أو معتمر تخونه الإرادة، ويخذله شعور (الأنا) المتواطئ مع نزعة الطمع في أعماقه، فلا يعود إلى بلاده بعد أدائه الشعيرة المقدسة، حجاً أو عمرة، بل يؤثر البقاء في المملكة مستتراً، أملاً في إحراز فرصة عمل من نوع ما، بأي أجر، في أي مكان، وفي ظل أي ظروف، بعيداً عن عين الرقيب!
***
الثانية:
* إنه لا بد من شدّ أزر وزارة العمل في حملاتها القائمة والقادمة للتعامل مع هذه الظاهرة، وذلك من خلال توظيف كل المنابر الدينية والإعلامية والاجتماعية للتعريف بهذه الظاهرة في شقيها ممارسة وآثاراً، أملاً في إيقاظ حسّ المواطن وغيرته ووعيه، ثم تعاونه في مكافحتها، فهو حصن هذا الوطن بعد الله. واختراق ذمته بمثل هذه الممارسات غير السوية، تستراً على شخص أو أشخاص، مهما كانت الأسباب، أو ابتزازاً لكدّه، خطيئة تنال من سمعة بلادنا في الداخل، وتجرح شرف الانتماء إلى الوطن، وهي بعد هذا كله مخالفة نظامية وأخلاقية يجب ردعها بكل السبل!
فهل نحن مهتدون؟!
|