لم يعد لدى الكاتب ما يمكن أن يقال. الأمر لله ثم للمواطن العادي. المواطن البسيط مثلي ومثلك الذي منّ الله عليه بفسحة من الحياة يريد أن يعيشها وأطفال يريد أن يربيهم وجمال في هذه الدنيا يريد ان يستمتع به. يريد أن يحيا بهدوء ويموت أيضا بهدوء. لم يندب نفسه لتغيير العالم. لا يريد أن يكون وزيراً لا يريد أن يكون أديباً لا يريد أن يكون داعيةً. يريد أن يعيش لنفسه وبنفسه ملتزماً بالتعاليم والقوانين والشرائع. يذهب في الصباح إلى العمل ويعود بعد الظهر ليأكل مع أطفاله حفنة من الرز ثم ينام ساعة أو ساعتين ويذهب إلى الاستراحة مع شلته ليعود الساعة الحادية عشرة أو قبلها بقليل لينام إلى جانب زوجته التي أحبها كثيراً أو قليلاً أو تكيف معها لكي تمضي الحياة. مشاكله لا تتعدى الخبز اليومي واللبن. يتعاطف مع الفلسطينيين ويكره الشر الإسرائيلي ويشاهد القنوات الفضائية. لم يعد يتكلم عن زيادة الرواتب أو فتح مكتب عقار ليعزز دخله. لقد قضي الأمر وتم توزيع الأرزاق وحسمت الأمور. يتفرج يومياً على عيال أصغر منه بعشرات السنين يقودون سيارات لكزس ومرسيدس وسيارات أخرى لم ير مثلها من قبل. وهو قانع بسيارة اشتراها قبل سنوات. لا يعني هذا أنه ترك الحلم والأماني ولكنه وضع أمانيه في حدود إمكاناته التي تريد أن تشكل مصيره ومصير أبنائه. ينقل أبناءه بين مدارس الحكومة والمدارس الأهلية حسب الظروف المادية مع ذلك يعد نفسه من الجيل المحظوظ الذي عاش رفاهية الطفرة الزاهية. بدأ يكبر وتتعاوره الأمراض المتناثرة التي يقول الأطباء إنها الثقوب التي يطل منها الإنسان على موته. من حسن حظه أنه سيكون قد غادر الدنيا عندما تدحدر الأحوال في طريقها الذي تسير فيه الآن دون كابح، عندها لن يرى أحفاده عندما يصبحون بائعي مناديل كلينكس عند الإشارات.
تكاد كفرات سيارته ترسم خطوطها الخاصة بها على الإسفلت لتحدد المسارات الثابتة التي يسير فيها يومياً دون تغيير. خريطة للمدينة تم رسمها بهدوء وفي وقت كافٍ تنطوي على شارعين أو ثلاثة وأن كثر فأربعة. أما باقي الشوارع والطرقات والأسواق بالنسبة له مجرد فضلة. ولا حتى الشوارع الزاهية التي بدأت البلدية ترصفها وتجملها وتحيطها بالعناية المتميزة لتحف بها المقاهي الراقية فهي ليست له وليست لأبنائه ولكن، من يعلم، ربما تكون فرصة لأحفاده يعملون فيها (جراسين) لخدمة أبناء هؤلاء الشبان الذين يراهم في سيارات اللكزس والمايباخ والهمر ضمن حملة من حملات السعودة المباركة.
آخر مرة استيقظ فيها شارع الوشم في كامل وعيه كان قبل أكثر من ثلاثين سنة. ذهب ليخرج جواز سفر ليسافر إلى القاهرة التي طالما حلم بها. ومنذ ذلك الحين لم يعد يهتم بهذا الشارع ولم يعرف عنه أي شيء. إذا مر به وهذا نادر لا يلفت نظره سوى مبنى الجوازات والجنسية ليأخذه الحنين إلى الشقة المفروشة بالعجوزة في قاهرة أوائل السبعينات من القرن الماضي. ما زال يحتفظ بألبوم صور له وللشلة عن ذكريات القاهرة بعد أن نزع منه بعض الصور استعداداً للزواج.
كان يمكن أن يموت دون أن تضيف الدنيا شيئاً يهمه في شارع الوشم. لم يكن يعلم أن شارع الوشم بدأ ينمو ويترعرع وتتشكل ذكرياته الجديدة التي سوف تزرع في وجدانه عندما سمح لأصحاب الكاسيتات المدوية بأن يحطموا تطلعاته الإنسانية الدنيوية وأن يحرموا على ابنه القاهرة ويزرعوا له الجنة في كهوف تورا بورا.
فاكس 4702164
|