* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
من أكبر الكبائر عقوق الوالدين، ففيها كل أنواع الضرر والأذى للإنسان في الدنيا والآخرة، والعاق توعده الله بأشد الوعيد يوم القيامة، والعقوق لا يستقيم مع الفطرة الإنسانية السوية التي أرادنا الله أن نحيا عليها، والتي من أجلها أوصى بها الله سبحانه بالوالدين، وحث على برهما في محكم التنزيل حينما قال:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }.
ولأن العقوق ظاهرة تنفرد بها الأنفس غير السوية، الجاهلة بفضل الوالدين، أو ضحايا التربية الخاطئة، والبث الإعلامي الهابط الذي أسقط هيبة الأسرة، وغيرها من العوامل التي أدت إلى تفشي ظاهرة عقوق الوالدين بين الشباب.. والتي تدفعنا للتوقف عند هذه الظاهرة التي يرفضها الإسلام، ويحذر من مخاطرها وآثارها المدمرة في الدنيا والآخرة.
العقوق وعواقبه
بداية يقول الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله حنفي رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة: إن منهج الإسلام في التربية نص على الحقوق، وأعظمها هو حق الله تبارك وتعالى، ثم من بعده حقوق المخلوقين وأولها حق الوالدين، قال تعالى:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، وخير الناس. كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:( خير الناس من طال عمره وحسن عمله) ، ولعل أقرب علاقة وتعامل تنطبق عليه هذه القاعدة هو تعامل الولد مع والديه، فإن الوالدين يقدمان خدمة كبيرة للأبناء في وقت ضعف وصغر، وقلة الإدراك، وانعدام الحيلة بالعناية والرعاية والاهتمام والتنشئة، ومكابدة المشاق، والسهر والتعب لأجلهم، وكل ذلك بطيب قلب وراحة نفس، وليس في الدنيا من يقدم هذا الجهد والمشقة والإنفاق لغيره دون مقابل مع الرضى والانشراح سوى الوالدين، لذلك كان الإسلام حازماً في حفظ حقوقهما، ووردت العديد من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي أوجبت طاعة الوالدين وبرهما، وتوقيرهما، وحذرت من عقوقهما، وبعض تلك النصوص يقرن عقيدة المسلم مع ربه ببر الوالدين، ولنا في وصايا لقمان الحكيم لابنه، والتي وردت في القرآن الكريم خير عبرة قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13} وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ويضيف حنفي: وقد حرم الله عقوق الوالدين، وتوعد العاق لوالديه بأن ينال جزاءه في الدنيا قبل مماته من تحقير وفقر وأمراض وعقوق أبنائه له، كما أن العقوق يجلب سوء الخاتمة، والقرآن الكريم حينما أورد كلمة (أف) في قوله تعالى:{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} قد قطع الطريق أمام كل أشكال العقوق صغيرها وكبيرها، جلها وحقيرها، فليس أقل من كلمة أف، والعارفون بالله يدركون معنى ذلك التشديد، لذلك نجد أن من السلف الصالح من كان يتجنب الأكل مع والدته خشية أن تسبق يده إلى لقمة نظرت هي إليها فيكون بذلك قد عقها وإذا كان البعض يرى في ذلك شدة في الحرص، لكنها في الحقيقة ناتجة من المعرفة الحقة بوعيد الله تجاه عاق والديه، ولعلنا نشهد في أيامنا هذه بعض الحوادث التي تقشعر لها الأبدان، وهي حوادث الاعتداء على الوالدين بالإيذاء الجسدي والنفسي، وأحياناً تصل إلى القتل ولا حول ولا قوة إلا بالله، والقرآن الكريم ينهى ويحذر من كلمة أف عندما توجه للوالدين، وهناك من يقتل والده أو والدته فأصبح سبباً لموتهما، وكانا سبباً لحياته، منحاه الحياة فمنحهما الموت، ولا شك أن ذلك جريمة منكرة ومروعة مهما كانت مبررات فاعلها من وقوعها تحت تأثير المخدرات أو قسوة الوالدين عليه فالله عز وجل قد بين الطريقة في التعامل معهما، فإذا وصل الأمر بهما إلى حد مجاهدة ابنهما المسلم للارتداد عن دينه فقد أمر بعدم الطاعة لكن يحفظ لهما حقهما في المعاملة الطيبة، والقول الحسن، هذا إذا كانا مشركين فكيف بمن يلعن أو يضرب او يقتل والده او والدته المسلمين؟.
ويؤكد الشيخ عبدالعزيز حنفي أن الخروج من هذه المعضلة التربوية، وحفظ حقوق الوالدين لا يكون الا بمواصلة تربية الناشئة على كتاب الله، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتكثيف الجرعات التربوية والإيمانية التي تهذب السلوك وتوجد لدى الفرد معياراً للتعامل مع والديه، مع إيضاح صور عديدة من التصرفات والأفعال التي تعتبر من باب العقوق، وما أكثرها، من ذلك:
نهرهما والعبوس أمامهما وترك الإصغاء، وتفضيل الزوج أو الزوجة عليهما، والتخلي عنهما في حالة العجز وكبر السن، وذلك لأن ضعف الوازع الديني والانحراف السلوكي والخلقي وتعاطي المخدرات من أبرز أسباب عقوق الوالدين، والعلاج يكون بإزالة الأسباب جذرياً عن طريق التربية الدينية والخلقية والسلوكية، وإبراز الجوانب التي تعظّم بر الوالدين مثل طاعة الوالدين والتبسم أمامهما ومساعدتهما في الأعمال، وكثرة الدعاء لهما، وغير ذلك كثير، فأبواب الخير والإحسان إليهما كثيرة يصعب حصرها، كما أن الاسترشاد بالأمثلة في تربية الأبناء والبنات يوضح تعامل سلفنا الصالح مع والديهم، فمثل هذه القصص لها تأثير واضح وراسخ في عقول الناشئة.
الاعتناء بالوالدين شعيرة إسلامية
من ناحيته يوضح الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب سردار إمام جامع العامودي بالمدينة المنورة شأن العقوق بالوالدين، فيؤكد أنها من أعظم المنكرات، ويقول: ومما يدمي القلوب ما نقرأه او نسمع به من أن شاباً قتل أباه رمياً بالرصاص وآخر قتل أباه ثم أحرقه.. ونتساءل أليس هذا منكرا عظيما وشنيعا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد روى البخاري من حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين.. الحديث)، وروى الإمام مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)، وهدد الله عز وجل العاقين بأشد الوعيد يوم القيامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم:
(ثلاثةلا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً: عاق،ومنان، ومكذب بالقدر) رواه الطبراني بسند حسن.
ويشير الشيخ سردار إلى فضل البر بالوالدين، وضرورة الاعتناء بهذه الشعيرة الإسلامية، وضرورة بث الاهتمام بها بين الأبناء والبنات، فبر الوالدين عظم الله عز وجل شأنه، فذكره بعد حقه سبحانه في غير موضع من كتابه الكريم، فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }، وعد النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين من افضل الأعمال، وذلك فيما روى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال:( الصلاة لوقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، ولما جاء معاوية بن جاهمة رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستشيره في الجهاد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:ألك والدان؟قال :نعم،قال :فالزمهما،فإن الجنة تحت أرجلهما(حديث صحيح )وعظم الله شأن الوالدين فجعل دعوة الوالدين مستجابة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر). رواه الضياء عن أنس بسند حسن بهذا اللفظ، ورواه بغيره أبو داود وأحمد والترمذي بسند حسن أيضاً.
فما أفضل صنيعة الوالدين لأولادهما منذ أن كانوا نطفة، وكم من المعاناة عاناها كل من الأب والأم في إسعاد أولادهما وتربيتهما تربية صحيحة سليمة، وكم شقيا معاً في توفير الراحة لهم وتدبير شؤونهم والسهر على مصلحتهم، بجانب ذلك فكم بذل الوالدان كل ما في استطاعتهما من جهد لإدخال السرور على أولادهم حتى كبروا وصاروا أزواجاً وعندهم من الأولاد ما تقر به أعينهم.
وما أقبح أن يواجه هذا الصنيع بعقوق يصفه الشيخ سردار فيقول مخاطباً الولد العاق: أمراك فعصيتهما، بل أعرضت عنهما، وقطبت جبينك، وحددت نظرك إليهما، ولوحت بيدك نحوهما، بل ربما قلت - وبئس ما قلت - قلت لا - قطع الله لا من فمك - وقلت أما يوجد غيري من إخوتي، احتاجا إلى المال فجعلته في الأصحاب والزوجة والأبناء بسخاء، وجعلته في السيارات والأثاث والسكن والنزهة، وحرمتهما إلا من القليل كأنهما شحاذان، لقد أبكيت عيونهما، وأسهرت ليلهما، وضيقت صدورهما، وطعنت قلبيهما حتى تمنيا أن لم ينجباك، وطمعاً في الموت ليفارقاك.
من أسباب العقوق
أما الأستاذة حصة بنت محمد الماضي المشرفة المركزية للإدارة العامة للتوجيه وإرشاد الطالبات فترى أن هناك جيلا نشأ لا يراعي الله في والديه، وترجع ذلك لعوامل عدة منها:
الجهل بفضائل البر وعقوبة العقوق، وأسلوب التربية الخاطئ الذي يقع فيه بعض الوالدين، ووسائل الإعلام الدخيلة التي أسقطت هيبة الوالدين، وما يراه بعض الآباء من أبنائهم وعقوقهم لهم، مؤكدة على أهمية أن نعلم الأبناء أن بر الوالدين سبب في زيادة العمر، وبركة في الرزق، فعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه، كما أن بر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( رغم أنفه، ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه.. من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة). رواه مسلم.
آثار العقوق
وتذكّر حصة الماضي بآثار عقوق الوالدين فتقول: إنها تتمثل في سخط الله والمنع من دخول الجنة، وكبيرة من كبائر الذنوب، وترى أن البر بالوالدين يبدأ من طاعتهما، وقضاء حوائجهما، وعدم مناداتهم باسميهما، وأن لا يتقدمهما، بل يمشي خلفهما وتقبيل أيديهما او رأسيهما، وعدم إلقاء الأوامر عليهما وعدم التأخر في خدمتهما، وغيره، لافتة إلى عوامل يمكنها من أن تساهم في بر الوالدين منها: الدعاء، فيسأل الله أن يعينه على البر بوالديه، ومجاهدة النفس حتى يصبح سجية عنده، كما يجب على المسلم البر بوالديه في حياتهما وبعد موتهما، فالسعيد من وفقه الله لبر والديه، والإحسان إليهما، واحترامهما احتراماً يليق بعطفهما وحنانهما على أولادهما، وقد عظم الله حقوقهما على أولادهما بنصوص القرآن والسنة، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم.
|