لا أظن أن أحداً منا إلا وقد شعر أن مقتل الرنتيسي قد وجه لطمة شخصية إلى وجه كل منا، فقلع أعيننا، وشج جباهنا، وجعل الدنيا أضيق من شق القبر على قامة كل منا. فكنا كمن شُقَّ ثوبه، وحُثِي التراب على رأسه، وبصقت الذئاب في حلقه، ليس فقط أمام أطفاله وناسه، بل أمام الملأ من مشارق الأرض إلى مغاربها، وليس فقط أمام تلك الحشود، بل أمام نفسه. فأي مذلة عامة، وأي هوان جماعي، وأي تقرحات فردية كان علينا أن نشعل العتمة وننام على حلكة ظلمتها تلك الليلة؟!
وإن كنتُ لا أظن أن أحداً ممن يحمل الهوية العربية الإسلامية من بنات وأبناء الوطن العربي والعالم الإسلامي، ومن المقيمين خارج نطاقهما الجغرافي، قد استطاع أن يذهب إلى النوم أو يغمض له جفن مساء السبت الماضي 27 - صفر - 1425 ليلة الأحد بعد خبر اعتداء العدو الإسرائيلي على حياة الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ولم يكن مرد تلك الحالة التي أصابتنا في الصميم يرجع فقط لتعمد الاعتداء وفاشيته وعمدية الترويع في تنفيذه بكل ما تملكه الصهيونية من ملكات البشاعة في ارتكاب الجرائم، لتتحول سيارة الشهيد وصحبه إلى محرقة نازية تفور بدمائهم الطاهرة.
إذ إن سجل التاريخ الإجرامي للعدو لم يسجل قط جرائم أقل فظاعة، من تفريغ الرصاص في أحشاء الحوامل عمداً في دير ياسين، إلى خلع عيون الأطفال بالطلقات المطاطية وجرف البيوت على أهلها في غزة اليوم.
كما لم يكن مرد تلك المرارة الجماعية التي أنشبت مخالبها في حناجرنا يرجع فقط لأهمية الرجل الرمزية والقيادية، وهو تلك القامة الوطنية الفارعة التي يشرفها الاستشهاد، مثلها مثل أولئك الفلسطينيين البسطاء من سكان الأرض المحتلة الذين لا ينسون تأبط موتهم يومياً تحت أذرعهم وهم يفتحون الباب ويخرجون إلى أعمالهم أو مدارسهم.
ولكن يبدو أنه بالإضافة إلى كل ذلك فإن مرد اللوعة الجماعية وجماعية الفجيعة يعود أيضاً وإلى حد كبير إلى شعورنا في الشعور واللاشعور بمشاركتنا في لؤم المصاب، وبعدم نَأْينا عن الملامة على المساهمة في إنتاج الواقع الذي يجعل من متع العدو السادية ليس فقط قتل المناضلين على أرضهم وملاحقة رموز الرمق الأخير الذي تمثله مقاومتهم، بل وأيضاً التلذذ باستفزازنا وتعذيبنا بقلة حيلتنا على امتداد الخارطة العربية كلها.
وإلا ما الذي يُجرِّئ العدو أن يخطط ويلاحق ويتقصد قتل قائد حماس الجديد بعد أقل من عشرين يوماً على قتل قائد الحركة الروحي والرمزي الشيخ أحمد ياسين لو لم يكن يريد بتلك الجريمة أن يجرَّنا جميعاً إلى قتلنا كمداً من عجزنا.
فهل حقاً نحن عبر جميع العواصم العربية والإسلامية دون استثناء ذلك الميت الذي ليس للجرح به من إيلام؟! هل حقاً نحن عاجزون إلى هذا الحد الذي يُجرِّئ الأعداء أن يَلِغُوا في دمائنا ويكادوا يرغموننا كقطيع على شرب ماء الكدر من أحذية الجنود؟!
فلا نملك من الأمر شيئاً إلا أن ندير لهم الخد الأيمن ليتلقى الصفعة التالية بعد الخد الأيسر.
هل حقاً نحن لا نملك إلا أن نكتفي بمشاهدة المقاومة الفلسطينية على أرض فلسطين، والمقاومة العراقية على أرض العراق، وهي تطعم نيران المحتلين أجمل شهدائها ونحن لا نفعل أكثر من الإجهاش بالبكاء أمام التلفزيون، أو إشاحة وجوهنا عن مجمل المشهد إلى مناظر قد تساعدنا على نسيان عجزنا وجبننا وتسهِّينا عن واجبنا ومسؤوليتنا وجريرتنا فيما يجري؟!
هل حقاً أن الشارع العربي على استعداد لأن يمضي في إنكار منكر الاحتلال بفلسطين والعراق بأبعد مما تريد أو تطيق قيادته؟!
لقد رأينا أمثلة من (هبَّات) المظاهرات الطلابية، خاصة التي خرجت في عدد من البلاد العربية؛ مصر, لبنان, المغرب, واليمن، بالإضافة إلى عدد من دول الخليج، كردة فعل أولية عفوية وغير منظمة على التحدي الإسرائيلي الوقح.
ولا نظن أن تلك المظاهرات إلا عينة بسيطة من غضبة المواطنين العرب إزاء قيام قوى العدوان في فلسطين والعراق (بالتمريغ المنظم) لكرامة الأوطان ومواطنيها في وحل الاحتلال وفي حريق الحروب.
كما أننا كنا قد سمعنا وقرأنا من التحليلات والتخرصات السياسية ما يذهب إلى القول: إن إسرائيل ما كانت لتتخذ قرارها بوضع قائمة لتصفية عدد من قيادات المقاومة والجهاد الإسلامي، بما فيهم الشيخ نصر الله من حزب الله بجنوب لبنان، وتشرع في جريمتها لولا أنها حصلت في ذلك على ضوء أخضر من أمريكا. غير أننا، وإن كنا لا نرى تلك الأهمية التي يحاول أن يخلعها أصحابها على مثل هذه الاستنتاجات التي وإن أصابت أولاها فإنه ليس هناك ما يؤكد الأخرى بأي حال، فإننا نرى أنه ما كان لأمريكا أن تعطي مثل هذا الضوء الأخضر لإسرائيل، هذا إذا لم تكن أمريكا نفسها تتوسل بهذه الاغتيالات تشتيت الانتباه العربي بين فلسطين والعراق بالإمعان في ضرب رموزه على الجبهتين: مقتدى الصدر - العراق, الشيخ ياسين, الرنتيسي - فلسطين، لولا أن كانت تلمس إمكانية الاستفراد بهذه الحركات المقاومة، ولولا أنها تخشى في نفس الوقت سريان موقفها المقاوم إلى تلك الأطراف الخاملة أو المستبعدة أو التي يخيل لها أنها نجحت في تحييدها.
ويبقى أن الإشكالية، أو بالأحرى الفاجعة، ليست في الموقف الأمريكي أو الموقف الإسرائيلي وحده، ولكن الفاجعة الحقيقة هي لو استسلمنا للإحساس بالعجز، وصدقنا أن ليس بالإمكان أفضل مما هو قائم.
لذا لا أعتقد أن الموقف الصحيح من هذا المنعطف الخطير الذي تمر به الأمة ويمر به المجتمع العربي، ومنه ما تتعرض له حركات المقاومة فيه من ملاحقة وتصفيات كما حدث للشيخ ياسين ود. الرنتيسي، هو القطيعة بين الشعوب والقيادات، إذا كان بالإمكان إعادة النظر في هذه العلاقة على أساس من التحمل المشترك لمسؤوليات هذه اللحظة التاريخية الحاسمة.
ولا أعتقد أن التاريخ أو الأجيال القادمة سترحم أياً منا فيما لو اكتفت الشعوب بنحي اللائمة على القيادات كما يظهر في الفضائيات، وتحججت بالعجز؛ لتسوغ لنفسها البعد أو الحياد عن مجريات الحدث.
فكما لا أظن أن القيادة الفلسطينية كانت غير قادرة ومشلولة كما تظن لتصدر على الأقل بياناً بتجميد (محادثات السلام المزعوم مع العدو الإسرائيلي) بعد مقتل الشيخ ياسين والرنتيسي بدل أن تكتفي ببيانات الشجب والاستنكار رغم جلل الخطب، فإنني لا أعتقد أن حكومة عربية أياً كان رعبها من ضغوط الخارج -وإن كانت ليبيا- تستطيع أن تمنع شعبها من أن يقاوم سلمياً العنف الموجه ضد حسه الوطني بالكرامة، وذلك بمقاومة شعور العجز ويأس السياسة.
ومن الطرق السلمية المقترحة على المواطن في عموم العالم العربي والإسلامي:
- مقاطعة السفر بغرض السياحة والترفيه إلى تلك البلاد التي تدعم احتلال العراق ولا تتخذ موقفاً من الاعتداءات الإسرائلية اليومية على الشعب الفلسطيني.
- الكتابة لتلك الشركات ولبرلمانات تلك الدول لإعلامهم باتخاذ قرار المقاطعة بتوضيح المسؤولية الفردية لهذا القرار، مع شرح مختصر ولكن واضح لأسباب المقاطعة.
- الكتابة للصحف الأجنبية، وإن في صفحة القراء لمَن يملكون لغات أجنبية رسائل توضح الاحتجاج العربي على ما يجري على أرض فلسطين وأرض العراق، وعما يُلصق بالإسلام والمسلمين والعرب من صور تنميطية متحاملة، وكذلك الموقف من إرهاب اغتيال قيادات المقاومة.
- فتح حوار مع الجهات والمنظمات التي تتعاطف مع قضايانا في الخارج؛ لتوصيل صوتنا إليهم وإلى المجتمعات التي يعملون بها ولسماع صوتهم.
وقد يكون هناك تصورات سلمية أخرى يمكن أن يتخذها المواطن العربي ليخذل شعوره بالعجز، وليشارك مشاركةً ولو رمزية في اتخاذ موقف مع مقاومة الظلم وضد عمليات التقتيل والإذلال.
وأهمية مثل هذه الإجراءات الصغيرة ليس في قدرتها بالضرورة على تغيير مجرى الحدث السياسي تغييراً جذرياً لصالح عدالة قضايانا، فلسنا طوبائين إلى ذلك الحد الذي نعتقد أن شمعة صغيرة يمكن أن تبدِّد ليلنا العربي المعمر، ولكن أهميتها في رسالتها السياسية رغم رمزيتها بأن أوطاننا ليست أكفاناً. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|