يدرك العالم أجمع ما عاناه الزنوج في الغرب من اضطهاد وعبودية ورق.. لعقود طويلة من الزمن، لكنهم استطاعوا أن ينتزعوا اعتذاراً من أوروبا وأمريكا عن تلك العقود السوداء في مؤتمر رسمي.. فمنذ أواخر الثمانينات نشطت في أمريكا الحركة المسماة ب(التحالف الوطني الأسود للحصول على التعويضات) التي يتزعمها (ايماري اوباديلي) التي تطالب بمنح الزنوج (الأفارقة الأمريكيين) تعويضات مالية وأراضي.. وطرح الأمر في الكونغرس عدة مرات، ومن أشهر ذلك ما طرحه عضو مجلس النواب في الكونغرس عن ولاية (ميشيغن)، (جون كونيرز) الذي ساهم في فرض تلك القضية إعلامياً.. على الأقل..
كما استطاع الأمريكيون من أصول (يابانية) أن يحصلوا على تعويضات بلغت 1.2 مليار دولار عام 1990م إثر صدور قرار قضائي يدين الإجراءات التي اتخذتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بحقهم خلال الحرب الثانية، التي شملت الترحيل القسري إلى مخيمات تجميع.. مما شجع (الأمريكيين الإيطاليين) على أن يحزوا حزو (اليابانيين الأمريكيين) في قضية التعويضات وقيامهم بمراجعة تاريخية..
كما استغل اليهود ممارسات النازية وعقدة الاضطهاد لديهم و(الهولوكوست) ولم يكتفوا بالاعتذار.. فهم دائماً يطالبون بالأكثر.. فحصلوا على مليارات الدولارات من ألمانيا ومن بعض الدول الأوروبية، ومن البنوك السويسرية.. وما زالوا يبتزون بعض دول أوروبا الشرقية مثل (النمسا)، فلقد نشر الكتاب اليهودي الشهير (نورمان فينكلشتاين) في كتابه بعنوان (صناعة الهولوكوست) أن اليهود ليسوا الوحيدين الذين تعرضوا للاضطهاد عبر التاريخ القديم والمعاصر، فهناك ضحايا كثيرون للعنصرية، لكن منظمات ومؤسسات يهودية قامت باستغلال الهولوكوست والمتاجرة باسم الضحايا وحولت الهولوكوست إلى تجارة مربحة.. فلقد حصل اليهود على (60) مليار دولار من ألمانيا كتعويضات، كما أخذوا مليار وربع المليار دولار من البنوك السويسرية.
وماذا عنا نحن العرب؟ أكبر (المعذبين والمهانين والمنهوبين في الأرض) منذ الاحتلال الغربي للدول العربية والمعاناة تحت وطأة الإمبريالية الغربية في الماضي البعيد.. مروراً بالوعد البريطاني الشهير ل(بلفور) والزلة الأمريكية الشهيرة ل(ترومان).. التي أقامت دولة صهيون (إسرائيل) في قلب العالم العربي.. فشردت وهجرت الملايين من أبناء فلسطين خارج وطنهم.. وهدمت المنازل، وجرفت الأراضي، ونفذت المجازر في الفلسطينيين.. وصولاً للعقاب الجماعي الذي يخلف المقابر الجماعية، الذي تنفذه أمريكا مع حليفتها بريطانيا وقتلهما للآلاف من المدنيين المسلمين والعرب الأبرياء في أفغانستان والعراق..
ولم.. يعتذر لنا أحد.. كما لم نطالب أحداً بالتعويض وبالاعتذار لنا.. إلى اليوم!! وتنهب ثروات الأمة العربية والإسلامية عياناً بياناً.. على مرأى ومسمع من العالم أجمع...
فتنهب العراق وهي تحت وطأة الاحتلال كل يوم وكل ساعة، كما تنهب حضارته وآثاره التي لا تقدر بثمن من متاحفه، وتظهر علينا تلك الآثار في أشهر متاحف العواصم الأوروبية.. ولم يطالب أحد لليوم بها وبعودتها للعراق! ويهرب البترول من العراق وتختفي ملايين الدولارات.. ويتم الإعلان عن ذلك بشكل متكرر، ولا أحد يجرؤ على مساءلة الحاكم المدني الأمريكي (بريمر) عن تلك الفوضى وتحميله المسؤولية،.. فإن كان (بريمر) لا يملك أجوبة على ذلك، فعليه أن يحقق في الأمر بجدية لتلافي تكراره، فهذا أمر مفروض عليه بحكم مسؤولياته وصلاحيات منصبه، باعتباره الحاكم المدني الآن، والمسؤول الأول عما يحدث!
إن ما يحدث في العراق ومع العرب يذكرني بقصة حدثت منذ عقود من الزمن.. عندما كان الزعيم الوطني، (سعد زغلول) يترأس أول وزارة برلمانية في تاريخ مصر.. وكان عالم الآثار البريطاني (هوارد كارتر) في مصر، وقد اكتشف في تلك الأيام مقبرة (توت عنخ آمون) وقد أحدث ذلك الاكتشاف ضجة كبيرة في كل أنحاء العالم..
ولاحظ رئيس الوزراء المصري أن المكتشف البريطاني يعامل المقبرة كأنها ملكه الخاص، يفتحها حين يشاء ويغلقها متى يشاء، فأرسل إليه سعد زغلول ينبهه إلى أن هذه المقبرة ملك مصر.
وأنها يجب أن تنفتح في حضور مندوب الحكومة المصرية، وعليه أن يحترم القوانين المصرية، فرفض (هوارد كارتر) هذه التعليمات، وأبلغ سعد زغلول وبكل غطرسة (بأنه حر..)، يفتح المقبرة متى يشاء، ويدخل فيها متى يريد، فأصدر سعد زغلول أمراً بإغلاق المقبرة، وتعيين حرس من الشرطة يمنع (هوارد كارتر) من الدخول.
قامت الدنيا في ذلك الوقت، واحتج (المندوب السامي البريطاني) واحتجت (الحكومة البريطانية) ونشرت الصحف البريطانية مقالات افتتاحية تتهم سعد زغلول، بالوقاحة، وقلة الذوق، في معاملة المكتشف البريطاني والعالم الأثري العظيم، وانتقلت العدوى إلى باقي الصحف الأوروبية فتبنت هي الأخرى الهجوم على سعد زغلول وقالت إن سعد زغلول تعامل مع المكتشف العظيم كأنه لص من لصوص الآثار، واتهمت (سعد زغلول) بأنه لا يُقدر العلماء، وتعامل بطريقة لا تليق مع عالم كبير له هذا الاحترام الهائل في جميع دوائر العالم العلمية! واضطر (مستر كارتر) في النهاية للرضوخ أمام تعليمات الحكومة المصرية، وألا يفتح المقبرة إلا في حضور مندوب الحكومة.
وبعد 54 سنة من تلك الواقعة، ظهرت الحقيقة، عندما أعلنت صحف العالم أن (توماس هوفنغ) مدير متحف (المتروبوليتان) في نيويورك، سينشر في شهر فبراير القادم مذكراته، وأنه سيذيع سرا خطيرا، فترقب العالم تلك المذكرات بشغف شديد.. وإذ ب(توماس هوفنغ) ينشر في مذكراته بأن المكتشف البريطاني العظيم (هوارد كارتر) سرق من مقبرة (توت عنخ آمون) 29 قطعة.. وأنها جميعها موجودة في أربعة متاحف أمريكية، (20) قطعة في متحف (متروبوليتان) وحده، والباقي وزع في متحف (كليفلاند) ومتحف (بروكلين) ومتحف (كانساس سيتي ومتحف (سنسناتي).
وهكذا تبين أن المكتشف البريطاني وعالم الآثار الكبير.. هو لص كبير..
فهل راجعت الصحف العالمية الكبرى أرشيفها، وقدمت اعتذاراً للزعيم المصري؟؟ وهل أعيدت المسروقات إلى مصر؟؟
وقفة:
شكر وتقدير للكاتب والشاعر (محمد الجلواح) على ما تضمنته زاويته الرائعة (غرس) في جريدة الاقتصادية ليوم الثلاثاء 13 أبريل 2004م من إشادة وثناء لمقالاتي الفكرية والفلسفية، التي كانت من ثلاث حلقات، تحت عنوان (غياب الفكر الفلسفي الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة) التي نشرت في جريدة الجزيرة صفحة مقالات يوم الخميس 25 مارس، والجمعة 2 أبريل والخميس 8 أبريل 2004م.
*عضو عامل هيئة الصحفيين السعوديين
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص.ب: 4584 /جدة: 21421/فاكس جدة: 026066701
|