تجولت مع الدكتور الحسن المحب في مدينة فاس الجديدة، وبالذات وسط المدينة الذي لا يختلف كثيراً عن بقية المدن العربية الا بظاهرة كثرة (القهاوي) التي تحتل معظم واجهات شوارع الأسواق، ولفت نظري ايضاً ازدحامها، والناس فيها جلوس في صفوف قبالة الشارع شباباً وشيّاباً، لكن ما يجعلها تختلف عن (قهاوي) بلدان اخرى مثل مصر انها هادئة لا جلبة فيها ولا ضوضاء، والناس صامتون او يتحدثون بهدوء، وقد تتبعت هذه الظاهرة في مدينتي الرباط والدار البيضاء فلم أجد فرقاً كبيراً. ولم اعجب من ظاهرة كثرة ( القهاوي) بهذا الشكل اللافت فهي من مخلفات الثقافة الفرنسية، اذا صح ان تكون ( القهاوي) ثقافةً!!
وتساءلت: هل كل هذا الكم الهائل من البشر الذين يجلسون على القهاوي هم من العاطلين عن العمل او من موظفي الدولة الذين لا عمل لهم بعد العصر؟ فكان الجواب: ان نعم، خليط من الاثنين، ولا بد من الاعتراف بأن هناك بطالة في هذا البلد الذي زاد عن الاربعين مليون نسمة ولا يزال يجاهد لاجل تنويع قاعدة موارده الاقتصادية.
لكن المغرب، مثل اي وطن عربي، غني بثرواته الطبيعية التي لم تستغل كلها بعد.
وفي آخر أيام الملتقى الدولي للأدب الإسلامي أُخذنا جميعا في حافلة لزيارة مدينة فاس القديمة، وهناك بدأت صحبتي للدكتور محمد حسن الزيد، وقررنا الانفصال عن المجموعة. كان معنا كتاب عن مدينة فاس بالخرائط والمواقع اردنا ان نمشي وفقها، ومعنا شاب مغربي تعرفت عليه في كلية الآداب تخصصه تاريخ هو ادريس ريان نعمنا بصحبته طوال اقامتنا في فاس، وكان آية في الوداعة واللطف وحسن الخلق.
بدت لنا مدينة فاس القديمة ونحن مقبلون عليها في الحافلة كقلعة حصينة بأسوارها المتينة وفخامة ابوابها المتعددة وموقعها على مرتفع يطل على المدينة الجديدة، وفاس كلها تقع ما بين عدوتين، ويروي المؤرخون ان هذا سر اختيار الامام ادريس بن ادريس مؤسس مدينة فاس سنة 191هـ لما رآه في ذلك الموقع من غضة ملتفّة بالاشجار مطّردة العيون والانهار، وما استحسنه من كثرة الماء وطيب التربة، واعتدال الهواء. واقيمت المدينة في سنة بعدما اعلن الامام ادريس قائلاً: ( من ابتنى موضعاً وغرسه فهو له هبة) فابتنى الناس الديار وغرسوا الثمار فكثرت العمارة، وقد ساعد على عمران المدينة كثرة الاشجار التي وفرت للناس ما يحتاجون من خشب للبناء، حيث كان الرجل يستهلك خشب الاشجار التي على ارضه فلا يحتاج غيرها. واطلق الامام ادريس على العدوة الأولى عدوة القرويين حيث نزل بها هو ومن معه من العرب الذين كان اكثرهم من اهل القيروان والبربر، واطلق على العدوة الثانية عدوة الاندلس واسكن بها جنوده وقواد جيشه وخيوله ومستلزمات قصره، وخصص لكل عدوة مسجداً مركزياً تحيط به بيوتها واسواقها، ولا تزال الاسواق المجاورة للمسجد تحمل اسمها التاريخي ( القيسارية) الى اليوم، وقد اختلف المؤرخون في مصدر هذا الاسم ان كان لاتينياً من (قيصر) او عربياً من (قصر).
ومنذ بنائها في آخر القرن الثاني الهجري وفاس تسجل مكانةً مميزة في التاريخ الإسلامي عامة وتاريخ المغرب خاصةً، فقد كان لها اثر كبير في مجرى الاحداث السياسية في المغرب والاندلس، وبلغت اوج تألقها الحضاري في عصري المرابطين والموحدين، اذ حرصوا على أن يسودها الاستقرار والأمان، فرعوا فيها العلوم والآداب، فهاجر إليها العلماء والأدباء الذين تزخر بهم كتب التاريخ، دخلها المرابطون سنة 462هـ، واهتم بها يوسف بن تاشفين مؤسس الدولة اهتماما كبيراً، واعاد تنظيم بنائها، فاهتم بالمساجد والمدارس، وامر ببناء الحمامات والفنادق، وزاد الأراضي المزروعة، واستقدم العلماء.
وفي سنة 540هـ سقطت فاس في ايدي الموحدين، فواصلوا الاهتمام بها حتى اصبحت من اهم المدن في العالم الإسلامي وكبريات مدن المغرب..
إنه التاريخ يتكلم بصوت عالٍ، فما الذي بقي من هذا كله؟ وما الذي رأيناه في جولتنا بفاس القديمة؟
هذا ما سيكون حديث الاسبوع القادم إن شاء الله
|