خرج أحد الأدباء المسنين من المستشفى بعد أن شفي من عارض صحي كاد يودي بحياته. فرح الجميع وعبّروا عن سعادتهم، فالأديب من كبار الأدباء الذين أسهموا بقوة في الحركة الثقافية في البلاد.
قدر لي الجلوس مع شاعر، تبادلنا الحديث النقدي والأدبي وتمدد الحديث وطال حتى وصلنا إلى الحديث عن هذا الأديب، فوجئت بالشاعر يقول لي: مع تقديري وحبي لهذا الأديب الرائد إلا أنه خيّب أملي وأفشل مشروعي، ثم قال: بصراحة لدي حوالي عشرين قصيدة رثاء في عشرين أديباً من أدبائنا المسنين جاهزة تنتظر موتهم. ثم قال والأسف يرف في عينيه: عندما دخل أديبنا المسن المستشفى جهزت القصيدة على أمل أن أكون أول شاعر يرثي هذا الأديب. ولكنه أمد الله في عمره خرج من المستشفى أفضل مما دخل وأعاد قصيدتي إلى ظلامات أدراجها.
صعقتني الفكرة: فلأول مرة أعرف ان هناك قصائد رثاء تكتب في الناس قبل موتهم على أمل موتهم.
عيب هذا الشاعر انه شاعر تقليدي يستطيع ان يكتب قصائد المناسبات ولا يمكن لشاعر تعود تدبيج قصائد المناسبات ان يكون قادراً على كتابة الشعر الحقيقي وإلا لكان مشروعه هذا من أخطر المشاريع الإنسانية التي تغوص في مجاهل الغياب الأبدي قبل حدوثه. كيف يرى الفنان الرجل ميتاً قبل موته، أو كيف تكون صورة الإنسان ميتاً قبل موته. سعيت أن أقرأ أي من قصائده ولكنه رفض رفضاً قطعياً وقال: ستفقد القصيدة حس الموت فيها. فهي هدية مني لروح المرحوم إذا مات رحمه الله.
سعيت كثيراً للتخلص من هذه الفكرة الجهنمية، ففي كل مرة أتذكر أحد أدبائنا المسنين أتذكر الشاعر وأتذكر أن هناك قصيدة خروج نهائي تنتظره. وأحياناً اكتشف نفسي متلبساً بحالة مفجعة، ففكرة قصائد الرثاء مسبقة الصنع يمكن ان تعمم وتوسع ولا تبقى في شكل قصيدة يمكن إنتاجها في أشكال متعددة، تصور موت الناس قبل موتهم.
في كل مرة أراجع مبنى جوازات الرياض تتبادر إلى ذهني فكرة قصائد الخروج النهائي أو الرثاء مسبقة الإعداد ولكن بطريقة صحفية. الإعداد للكارثة قبل وقوعها في الأماكن المرشحة بقوة لمثل هذه الكوارث. طالما لا يوجد أحد مهتم بوضع مخارج طوارىء وأمان في مبنى جوازات الرياض يبقى هذا المبنى من أقوى المرشحين لإنتاج كارثة كبرى في المملكة. وبالتالي هو مرشح للاستفادة من فكرة الشاعر في عمل صحفي عن الموتى قبل موتهم.
تقوم أي صحيفة ذكية بتصوير كافة أرجاء مبنى الجوازات هذا وتعد دراسة صحفية حول تدني مستوى السلامة والإخلاء بالصورة والتحليل وبآراء الخبراء والمختصين في مسألة الحريق وسلامة التجمعات. ثم تجرى مقابلات مع عدد من المبتلين بالعمل يومياً في هذا المبنى. كما تجرى حوارات مع المسؤولين عن سلامة المبنى الذين سوف يبررون الكارثة إذا وقعت، ثم يحفظ هذا الريبورتاج في الأدراج، وما أن يشب حريق و(يتوط) العاملون والمواطنون بعضهم بعضا في الدرج الضيق والممرات، ويموت من يموت وينجو من ينجو، تصدر الجريدة في اليوم التالي بعناوين ومنشتات حول الكارثة بسبق صحفي غير مسبوق. لا تحتاج تلك الجريدة الى مزاحمة الصحف الأخرى وملاحقة المسؤولين للحصول على تصريحات. فلديها الربورتاج المتكامل مسبق الصنع وبإمكانها أيضا ان تستعين بشاعر أو شاعرين من شعراء المناسبات من نفس نوعية شاعرنا ليرثي المراجعين والعاملين في المبنى بقصائد عصماء تؤسس لموتهم القادم.
فاكس 4702164
|