كتبت وغيري.. مقالات عن التغيير المطلوب في مجالات حياتنا، حتى ظن أهلنا وأصدقاؤنا أننا مجرد أصابع مأجورة تستهدف إشعال حرب ضروس ضد مجتمعنا، وقلب موازينه رأسا على عقب.
والواقع أننا غير ذلك، فنحن مواطنون مثلهم لسنا أكثر منهم حرصا على مصلحة الوطن ولسنا أقل، إنما لكل منا رؤية خاصة، تتفاوت بعداً وعمقاً واستقراء للمستجدات والتحولات التي تحيط بنا، والتي تفرض علينا جميعا التغيير الإيجابي الذي من شأنه أن يدفعنا إلى العمل، وبذل الجهد، وتلمس مواقع أقدامنا، وتفادي السقوط إلى الهاوية.
لكن في المقابل، لم نفقد الثقة كلياً بأنفسنا أو بمجتمعنا المليء بالخير والثوابت المضيئة التي جاء بها ديننا والتي رسختها تقاليدنا وعاداتنا العريقة الأصيلة، فليس كل ما هو عليه مجتمعنا خاطئا أو فاسدا يحتاج إلى النسف والتغيير، بل إن الصحيح السليم في مجتمعنا السعودي أكثر من الخاطئ والسقيم، وإن المعتدل أكثر من المائل، فحسبنا أننا نمتثل لديننا الذي يوجهنا إلى أن (الكلمة الطيبة صدقة).
إن في مجتمعنا الكثير من القيم الدينية، والسلوكيات الأخلاقية والتوجهات الإنسانية والحضارية، وهذه لا نريدها أن تتغير إطلاقا، بل نريد أن تبقى وتنمو وتستمر.
وما دمت اخترت الكلمة الطيبة وحسن الظن ببعضنا موضوعا فإنني أريد أن أعطي مثالاً على رجل منا نجله ونحبه.. أراه من أكثر الناس تمسكاً بقول الكلمة الطيبة وحسن الظن وحب الخير، ومجاملة الناس لزرع الود بينه وبينهم.. ألا وهو الشيخ الجليل والمربي الكبير عثمان الصالح، الذي أسأل الله له الصحة والعافية وحسن الخاتمة.
عرفت الشيخ عثمان الصالح عن قرب بعد تخرجي في الجامعة مباشرة.. وكان ذلك قبل سنوات طوال.. وأتيح لي الاتصال به وحضور مجالسه وهي كثيرة جداً.. فمن رقته الشديدة أنه يحضر بل ويسافر لحضور كل مناسبة إكراما للداعي أو للقيام بواجب عزاء أو تهنئة.. إن له قدرة فريدة على الاتصال الإنساني.. إنه يعرف الجميع ويحب الجميع.. ويبادله الجميع الحب والتقدير.
في البداية استفزني الشيخ برقته الشديدة.. فوجهه مقبل دائماً.. وفعله سمح دائماً.. وكنت أحس أن ما فيه من رقة ولين ومجاملة وحب ربما كان تصنعاً، إذ ليس هناك إنسان في هذا الوقت يمكن أن يتصف بتلك الرقة، وذلك الإقبال وهذه السماحة!.. إضافة إلى قدرته العجيبة على رعاية خواطر الناس واحتوائهم بأدب جمّ وتعامل راقٍ.. وتبسط ودود أليف.
أذكر أني مرة سألت الشيخ عثمان سؤالاً كنت سأعتبره وقحا لو كنت مكانه.. حيث قلت له: كيف يمكن أن تسع وتجامل الناس كلهم.. وكلهم لديك أخيار لا أشرار.. فكان رده جامعاً مانعاً حيث قال: (هذا هو ما رأيته في كل من التقيت به.. أما ما تراه أو يراه غيرك فهذا شأنك وشأنهم).
الشيخ عثمان استطاع أن يحقق مساحة تأثير واسعة من خلال قدرته الفريدة على الاتصال.. ومهارته المتفوقة في التعامل مع الصغار والكبار.. وإعطاء كل فرد يلقاه العناية والرعاية والاهتمام الكامل.. فكسب قلوبهم وعقولهم.. وبذلك حصد حبهم واحترامهم.
كانت رؤيته لوجهات نظر الآخرين.. تنطلق من حقهم في إبدائها، فهو كما يردد في أحاديثه يرى أن كلاً ابن بيئته، وما توجهات الإنسان ومفاهيمه وقيمه إلا نتاج للبيئة التي عاشها.. وإلا فإن أصل الإنسان طاهر نقي.. وإن اعتراه شيء من الشك والظن وسوء التقدير، فما ذلك إلا من ظروف البيئة المحيطة، وليست من أصله.
الشيخ عثمان بنى شبكة علاقاته الواسعة الكبيرة من خلال الصلة بمن يعرف بشكل دائم لا ينقطع.. إن له قدرة هائلة في ذلك.. فصفة التواصل فيه تتجاوز حدود القدرة العادية في الإنسان العادي.. لكن الشيخ عثمان ليس إنساناً عادياً.
هذه القدرة الاتصالية للشيخ عثمان.. أتاحت له التأثير على مساحات وقطاعات كبيرة ومتعددة.. حيث كلها تصب في الصالح العام.. وبذلك كان الشيخ عثمان من القلائل الذين هم خارج المسؤولية الحكومية ويملك مساحة تأثير واسعة.
لقد كانت مساحة تأثيره.. تبدأ بتسجيل طالب في الروضة وتمر بإقامة منشآت حكومية تعليمية وصحية في أماكن كثيرة من المملكة.. وتنتهي بجاهات عتق الأرقاب وتخفيف الحدود عن بعض المخطئين عن جهل وعدم دراية.
اليوم والشيخ عثمان في خريف العمر.. ادعوا معي له بالراحة وأن يبحر بقية عمره هانئاً سعيدا بما أنجز.. وادعوا معي أن يكون في مجتمعنا من أمثاله كثير وألا يقطعهم.
إن سلوك وأعمال وأفكار الشيخ عثمان من الثوابت الجميلة التي يجب أن تبقى.. ويجب أن نحافظ عليها، وألا نطلب التغيير فيها.. ومن هنا فإن المطالبة بالتغيير في مجتمعنا هي المطالبة بتغيير الأمور الخاطئة لا الأمور الجميلة والخيرة التي تهدينا وتدفعنا إلى التآلف والتراحم والتواصل وإعطاء الكلمة الطيبة وتقديم الظن الحسن بالله ثم بالناس.. مثلما يفعل شيخنا الجليل عثمان الصالح.
|