(1)
** روت فاطمة المرنيسي في كتابها (شهر زاد ليست مغربية) عن المسعودي في كتابه (مروج الذهب) أن رجلاً من العامة بمدينة السلام شكا إلى الوالي جاراً تزندق لأنه مرجئ - قدري - ناصبي - رافضي - يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص.. وقد حبكت مع الوالي الذي لم يدرِ علام يحسده : أعلى علمه بالمقالات أو على بصره بالأنساب..!
** حكايةٌ قد تَصْدُق .. فلا يزال الناس يتندرون بغرائب تصدرُ من مثل هؤلاءِ، ويُقال إن أحد مواطنينا رفض -في فترة المد الشيوعي- السفر إلى بلد عربيّ خشية أن يطبخوا له شيوعية حمراء (ربما تذكر الفاصوليا الحمراء التي طرأت على ثقافتنا المطبخية في معلبات سريعة الطهي لم يألفْها مجايلوه )..!
(2)
** أزمة مصطلح.. لا تثريب على العامة إن وقعوا فيها، فلن يعنيهم من الأمرِ سوى ما يلتصقُ بذواكِرهم من معلومات شفهيةٍ تمرّر، وتكرّر، فيكبر صغيرها، ويشوه معتدلها، ويميل قائمها، فتنتهي إلى صورة ذهنية نمطية لا يمكن المساس بها..!
** لنأخذ مصطلح الحداثة.. فقد مثَّل تهمةً ترتقي - في ذهن غير المختصين- إلى درجة الكفر، ويكفي أن يقال عن شخص إنه حداثي ليشمله حكمٌ حاسم بالخروج على تعاليم الأمة..!
** ولو سئل كثيرون عن ماهية (الحداثة) لأجابوا بتعميم غير مفهوم، وردّدوا أسماءً غير منتظمة، وانتهى الأمر بإقفال الحوار بجملة أو جملتين تلخص (موقفاً) تبعيّاً للسائد.. مع إحالةٍ إلى (كتابٍ) أو (شريط) مليء بابتساراتٍ من نصوص تُفصل عن سياقِها، وربما تجاوزت حدود اللياقة في مجتمع محافظ ..!
** وإذا كانت هذه هي (الحداثة) التي ودعناها إلى زمن (مابعد الحداثة) فلا يزالُ (الأغلبية) من غير المتخصِّصين واقفين بباب (الأولى) ينعون عليها وعلى أربابها جنوحهم الفكري والعقدي، ورغم خروح العالم كله من نظرياتها إلى ما تلاها فإن فينا من ظل (هناك) دون أن يعلم ما (هنا)..!
(3)
** يفترض ثلةٌ فينا أن قضية الحداثة رهن بتجارب أدبية في الشعر والسرد، وربما عجبوا إذا علموا أن من أبرز النظريات التي تحكم الفعل الإداريّ في قطاعاتِه العامة والأهلية نظرية مابعد الحداثة التي تقف ثالثة إلى جانب نموذج البناء المؤسسي ونموذج البناء المجتمعي أو المدني ويتركز مفهومُها على فن الحوار Discourse Theory ..!
** وإذن فقد مررنا بتجارب الحداثة في الإدارة دون أن يمقتها أحد، وكانت خصماً لدوداً للإدارة التقليدية، وتجاوزناها.. أو تجاوزها العالم (فلا تزال بعض إداراتنا في مرحلة (الإدارة العلمية لفردريك تيلور) التي غادرتها الأمم قبل قرن ..!
** لِم لَمْ يعادِ الناس حداثة الإدارة أو يؤيدوا تقليديتها مع أنها تمسُّ سلوكاً وممارسة ونتائج ترتبط بحياتهم .. وتستند إلى فلسفة فكريّة تقابل المذهب الأرثوذكسيِّ.. أي أن الموضوع ليس مكتباً وسكرتيراً وعملاً تنفيذياً وإجرائياً يبتدئ بمعروض وينتهي بتوقيع ..!
(4)
** لو شاء أحدنا حصر الرموز الثقافية من الرواد، والفاعلين من جيل الوسط، والمشاركين من جيل الشباب لرأي أن القاسم المشترك بين معظمهم هو الاهتمام أو التخصص في الدراسات الإنسانية.. وتحديداً اللغة العربية وآدابها والشريعة الإسلامية وثقافتها..!
** من هنا جاء تأثير رؤية المصطلح -كما في مصطلح الحداثة- بعين أحادية ليصطرع النخبة والجماهير داخل حلبات ملاكمة لا تنتهي بفوز فريق وإنما بتحطيم نماذج ومُثُلٍ وقيمٍ وذمم وتبديل اقتناعات وتبادل اتهامات، بينما يعيش حداثيو الإدارة -على سبيل المثال- في هدوء.. فتختلف المدارسُ دون صخب، وينتقل الإداريون إلى ما بعدها عبر حوار، ونظل لا تفهم متى كنا في عصر الحداثة..؟ ومتى كنا قبلها..؟ ومتى تجاوزناها ..؟ وهل أمرها قصر على نصّ تغير شكله..؟ أو مفاهيم اختلف مضمونها..؟ أو رؤىً يرادُ غرسُها..؟
(5)
** دانت الساحة لكليات الآداب أو لقسم فيها، ولكليات الشريعة أو لتخصصات فيها.. فأصبح منسوبوها هم مَنْ يحاضرون في المنتديات، ويكتبون في الصحف والمجلات، ويخرجون في الإذاعات والفضائيات.. وتملأ مؤلفاتهم رفوف المكتبات..!
** دانت القيادة لهؤلاء مِمَنْ وقفت معلومات كثير منهم عند قراءاتهم التراثية والمحدثة ليتمثل كل منهم نماذج عربية أو غربية يطبقها في محاكمة السلوك العام دون أن يقتصر على تخصّصه الضيِّق في مواده النظرية المجردة ..!
** هل يحكي هذا خللاً..؟ ربما..! فرغم أن لأمثال هؤلاء مكاناً ومكانة إلا أن قيادة الرأي العام وتوجيه سلوكه تحتاجُ إلى غيرهم ذوي الرؤية المختلفة في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والتقنية والتربية والإدارة ونحوها ممن اعتادت المجتمعات المتطورة أن تنهض بجهودهم ..
** ولعل من تابع واقع الساحة سيرى أن هذه التخصصات العلمية العملية قد أصبحت تابعة لتخصصات اللغة والأدب والثقافة الإسلامية فصارت تلك هوامش في متن هذه، رغم أن فاعلية الأولى -بالمعيار التطبيقي- أكبر وأقوى تأثيراً، ومع الإيمان بأن الإسلام لا يحتكره (تخصص) ولا وجود لرجال دين فيه، ويظلّ دور دارسيه مثل غيرهم مقصوراً على الإسهام في نطاقِ مهامهم ..!
(6)
** ليست الحداثةُ سوى نموذج على تيه المصطلح الذي وقعت فيه مصطلحات أخرى ومنها مصطلح الإرهاب الذي لم نعد نعرفُ كيف يبتدئ وأين يقف ..!
**وهكذا أيضاً فإن مصطلح العلمانية والتعددية والحوار والديموقراطية والشفافية والعولمة وغيرها تحولت إلى كلماتٍ هائمة يفسرها كلٌّ حسب رؤيته أو مصلحته أو خططه المعلنة والمختفية ..!
** للنظريات -حسب فرنسيس بيكون - دور في جعل الرؤية متميِّزة .. وعلى الباحثين -في اقتناعه- تصفية عقولهم من النظريات وتخليصها من التحيُّز كذلك.. ولكن هيهات..!
(7)
** هل يستطيعُ أحدٌ فينا -مهما ادّعى الموضوعية- أن يكون ذا رأس مرّبع طولهُ كعرضه وارتفاعه، محيطه معروف، ومساحته ثابتة .. ويرنو نحو الجهات الأربع..؟
** دائريون نحن.. ودائريّةٌ رءُوسنا.. تدور مع التيار، وتختلف حسب التوجهات (وأحياناً التوجيهات)، ووعينا من بعض بني أبينا أن ما أُحلََ في زمن حرُم في زمن غيره.. وما حرُم في مكان أُحلَّ في مكان مشابه، ولكلٍّ تأويلُه وتدليلُه وتعليلُه..!
** وفي مثل هذا التميُّع البشريّ وهو -حيناً- علامةُ تطور ذهني ومعرفي يصعبُ العثور على (مصطلحٍ) ثابت بفهم محدد..!
** ولعل من أهم معطيات عصر مابعد الحداثة هدم الأسوار، وفتح الأُطر، وإلغاء الحصار.. ولكن.. أين نحن منه..؟
(8)
** قد يقودنا ما سبق إلى استفهام مشروع حول ماهّية الصدق أو هوية الحقيقة، ومثلما يغيب المصطلح في متاهات الأدلجة، فقد أثبت عالم الرياضيات ألفرد تارسكي استحالة وجود معيار عام للصدق.. أو معادلة يمكن -بوساطتها- حسمُ معطيات أي قضيّة..!
** إن قضايا الرأي لا يمكن الجزمُ بشأنها كما هي مسائل الطبيعة التي تقرر -حسب تارسكي ورؤية الحسِّ المشترك - أن عبارتي الثلج أبيض والنجيل أخضر صادقتان .. بينما الثلج أخضر والنجيل أحمر عبارتان كاذبتان أسطورة الإطار - كارل بوير - مترجم..!
** قد يجوز ادعاء الصدق المطلق أو الكذب المطلق إذا كان الخلاف على نوع سيارة.. أو مكونات عمارة غير أنه لا يمكن مقارنة مدخلات ومخرجات الأفكار بأشكال وألوان الأحجار مما يجعلنا في تماسٍ مهم مع استفهامٍ مبهم لا ينتهي بإجابة.. فمنْ يستطيع الادعاء بأنه يملكُ الحقيقة كل الحقيقة.. ومن يقدر على تفسيرها بأجلى طريقة..!
** الحقيقة لا تحتكر ..!
|