1- الحرب الإلكترونية في الفكر العسكري المعاصر
الجدل حول أهمية الحرب الإلكترونية بات من العبث، لأن الدروس المستفادة من العمليات العسكرية خلال العقود الثلاثة الماضية كانت كفيلة بتأكيد تلك الأهمية، وبتركيز مدار البحث على كيفية استغلال وتطوير دور الحرب الإلكترونية في ميدان المعركة، ونتيجة لهذا التحول أصبح القادة المعاصرون ينظرون إلى الحرب الإلكترونية كعنصر أساسي لتحقيق التفوق النوعي على خصومهم، ولذا نجدهم يأمرون مرؤوسيهم بوضع تأثير عمليات الحرب الالكترونية في الاعتبار اثناء تخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية المختلفة، وباستعراض مكتسبات التقنية العسكرية في القرن الميلادي السابق، نجد ان الأسلحة والأنظمة الالكترونية المستخدمة في تنفيذ العمليات الجوية ومهمة الدفاع الجوي قد استوعبت أكبر قدر من التقنيات الالكترونية مقارنة بالأسلحة والأنظمة الأخرى، وبالتالي هي أكثر تأثراً بالحرب الالكترونية من غيرها، ويجب ان تحظى حمايتها الكترونيا باهتمام القادة، والفقرات اللاحقة تهدف إلى توضيح التهديد الالكتروني الذي تتعرض له انظمة الدفاع الجوي الأرضية ومن ثم التطرق إلى وسائل مقاومة هذا التهديد.
2- التهديد الإلكتروني على الدفاع الجوي
يسعى القادة في بداية العمليات العسكرية الحديثة إلى تحقيق السيطرة الجوية فوق مسرح العمليات لتتمكن قواتهم من تنفيذ عملياتها الأخرى بحرّية، وأول خطوات تحقيق السيطرة الجوية هي تحييد وحدات الدفاع الجوي الأرضية المعادية، لذلك يتم تخصيص الطلعات الجوية الأولى لاخماد الدفاع الجوي المعادي (Suppression Enemy Air Defense, SEAD)، أي أن وحدات الدفاع الجوي الأرضية من الأهداف الرئيسية الأولى للخصم، وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكن تحديد عمليات الحرب الالكترونية التي تمثل التهديد الالكتروني على الدفاع الجوي الأرضي أثناء الحرب بما يلي:
أ- الهجوم الإلكتروني (Electronic Attack, EA)، كان يطلق عليه في التراث العسكري التدابير الإلكترونية المضادة (Electronic Counter Measure, ECM)، وهو أفضل وسيلة لاخماد الدفاع الجوي المعادي، لأن فاعليته شديدة نتيجة لدقته، وتكاليفه قليلة مقارنة بتكاليف المعدات المستهدفة، ومخاطره ضئيلة لأنه يتم تنفيذه من خارج المدى المؤثر لأسلحة الخصم، والوسائل المستخدمة في الهجوم الإلكتروني (EA) هي:
(1) الصواريخ المضادة للإشعاع (Anti-Radiation Missile, ARM). تعتبر أشهر وسيلة لتدمير الرادارات واصابتها دقيقة لأنها تتبع الإشارة المنبعثة من الرادار المستهدف.
(2) الاعاقة الالكترونية - التشويش (Electronic Jamming)، وهو حجب الأهداف الجوية عن الرادار.
(3) الخداع الإلكتروني (Electronic Deception)، يهدف الخداع الإلكتروني إلى ادخال معلومات كاذبة في نظام الدفاع الجوي عن عدد الأهداف الجوية أو سرعتها أو مداها.
(4) الصواريخ الموجهة بالأشعة ال تحت الحمراء (Infra- Red Missiles)، يسعى المهاجم إلى تدمير مولدات الطاقة الكهربائية لتعطيل وحدة الدفاع الجوي أو جزء مهم منها، ويستخدم لذلك الصواريخ الموجهة بالأشعة تحت الحمراء لأن المولدات تبث مقداراً هائلاً من هذه الأشعة.
(5) القنابل الموجهة بالليزر: عادة يستخدم هذا النوع من القنابل لتدمير مراكز القيادة والسيطرة والاتصالات.
ب- المساندة الإلكترونية المعادية (Electronic Support, ES)، لكي يتمكن الخصم من تنفيذ عملية الهجوم الإلكتروني، لابد أن تكون لديه قاعدة معلومات حرب الكترونية دقيقة وحديثة عن النظام المستهدف، لذلك يقوم العدو قبل تنفيذ الهجوم الإلكتروني بإجراء عمليات مساندة إلكترونية، وتشمل المساندة الإلكترونية التقاط الإشارات الكهرومغناطيسية المنبعثة من رادارات نظام الدفاع الجوي المستهدف، وتحليلها لتحديد مواقع الرادارات وخصائصها الفنية، وقد تكون أنظمة المساندة الالكترونية أرضية أو محمولة جوا على الطائرات أو المراكب غير المأهولة (Unmanned Arial Vehicles, UAV)، إلا ان الأخيرتين تتميزان بأنهما أبعد مدى من الأولى. والمساندة الإلكترونية (ES) كانت تسمى (Electronic Support Measures, ESM)، وهي عملية مستمرة في الحرب والسلم وعلى مدار الساعة. ويستخدم الخصم المعلومات التي جمعها لبرمجة أنظمة الهجوم الالكتروني.
ج- الطائرات المتخفية (Stealth Aircrafts)، بعد النجاح الباهر الذي حققته طائرة الشبح (F-117) في حرب تحرير الكويت وحروب البلقان، ورغم اسقاط إحداها في يوغسلافيا، إلا انه من المتوقع ان ينتشر تطبيق تقنية التخفي (Stealth Technology) على الطائرات الحربية، وتحديث هذه التقنية على ضوء الدروس المستفادة من حرب البلقان، وهذه التقنية عبارة عن استخدام مجموعة من المواد الخاصة والتصميمات الهندسية لتقليص مساحة المقطع الراداري (Radar Cross Section, RCS) للطائرة، مثل طلاء الطائرة بمواد تمتص الأشعة الرادارية، وتصميم أجزاء الطائرة بشكل انسيابي ونقاط التقائها زوايا منفرجة لكي تشتت الأشعة الرادارية في اتجاهات مغايرة لاتجاه الرادار، وجعل فتحات خروج عادم المحركات فوق جناح الطائرة لمنع الاشعة الحرارية (التحت الحمراء) من الوصول إلى الصواريخ الفردية الحرارية والكاميرات الحرارية، بالإضافة إلى تحميل الصواريخ والقنابل في مخازن داخل جسم الطائرة (لأن تحميل الصواريخ والقنابل تحت الجناح يضخم الأشعة الرادارية ويعكسها في اتجاه الرادار)، والهدف من كل هذا هو تقليل مدى اكتشاف الرادارات الأرضية، وبالتالي ايجاد ثغرات في التغطية الرادارية للمرور من خلالها إلى الأهداف المدافع عنها.
3- مقاومة التهديد الإلكتروني على الدفاع الجوي بعد ان اتضحت المعالم الرئيسية للتهديد الإلكتروني الذي تتعرض له أنظمة الدفاع الجوي الأرضية في عصرنا، يسهل تصور الأسلوب الأمثل للمحافظة على الفاعلية القتالية لتلك الأنظمة وهي تحت وطأة عمليات الحرب الإلكترونية المعادية، وفيما يلي أهم الإجراءات والوسائل التي تمكن منظومات الدفاع الجوي من تجاوز او التقليل من التأثيرات السلبية للتهديد الإلكتروني:
أ- تنويع ودمج الرادارات: التنويع والدمج من مبادئ الدفاع الجوي، ولا يقتصر تطبيقها على الأسلحة من حيث نوع الذخيرة فقط، بل يجب ان يشمل الأنظمة الإلكترونية المساندة للأسلحة، فإن تنويع رادارات منظومة الدفاع الجوي من حيث النطاق الترددي التي تبث فيه يجعل اعاقتها الكترونيا أمرا صعبا، لأن ذلك يتطلب عدة طائرات مجهزة بمعدات تشويش وخداع متطورة تغطي جزءاً كبيرا من النطاق الترددي، وليصبح الأمر أكثر
صعوبة على الخصم يتم تجميع الصور الجوية المرسلة من رادارات المنظومة ومن منظومات القيادة والسيطرة الأخرى ودمجها مع بعضها للحصول على صورة جوية مدمجة لاتتأثر باعاقة بعض الرادارات فنادراً ما يستطيع المهاجم إعاقة عدد كبير من الرادارات المتنوعة في خصائصها الالكترونية.
ب- استخدام وسائل الاكتشاف والتتبع السلبي.. المقصود بالكشف والتتبع السلبي هو استخدام أجهزة لاتبث أي نوع من الاشارات (سلبية Passive) وتكتشف الأهداف وتتبعها بالتقاط أي نوع من الاشارات المنبعثة من الهدف ومن أنواع هذه الوسائل مايلي:
(1) أجهزة تحديد الاتجاه (Direction Finging)
هي عبارة عن أجهزة استقبال ذات حساسية عالية تلتقط الاشارة الكهرومغناطيسية وتحدد اتجاه مصدرها ولو كان على بعد عشرات الكيلومترات، وفي جميع الظروف المناخية ولهذه الأجهزة فائدة عظيمة عندما تفقد الرادارات القدرة على الاكتشاف والتتبع بسبب التشويش أو الإعاقة الالكترونية، حيث تقوم أجهزة تحديد الاتجاه بكشف وتتبع الهدف المعادي من خلال إشارة التشويش الصادرة منه، وتزويد وحدات الضرب بموقع الهدف لتتمكن من الاشتباك معه.
(2) أجهزة الكشف والتتبع الكهروبصرية (Electro-optical Equipment).. هذا المسمى يشمل كاميرات التتبع التلفزيونية، والكاميرات الحرارية، وهذه الأجهزة مدى اكتشافها قصير نسبيا، ويتأثر بحالات الطقس الرديئة، إلا أنها تمكن وحدات الضرب من الاشتباك مع الأهداف الجوية المعادية التي تتطلب مهمتها الاقتراب من النقاط المدافع عنها.
ج- الطعوم الرادارية النشطة (Active Radar Decovs).. تستخدم هذه الأجهزة لحماية الرادارات من الصواريخ المضادة للاشعاع ARM وهي عبارة عن مرسلات - ليس معها مستقبلات أو أجهزة قياس ومعالجة أو شاشات كما في الرادارات الحقيقية يربط (2) أو (3) منها بالرادار المعرض للصواريخ المضادة للاشعاع ARM فتقوم ببث إشارة لاسلكية لها نفس خصائص إشارة الرادار المحمي بالتناوب فيما بينها مما يربك جهاز التتبع في صاروخ ARM فيسقط في نقطة متوسطة بين الرادار المحمي والطعوم الرادارية النشطة.
د. الحجب الراداري والحراري.. المقصود بالحجب الراداري والحراري هو اخفاء المعدات الحرجة في أنظمة ومراكز الدفاع الجوي من أجهزة التهديف (Target Finding) والاستطلاع (Reconnaissance) الرادارية والحرارية المعادية والوسيلة الفاعلة للحجب الراداري والحراري هي تغطية المعدات بشباك تمويه خاصة مصنعة من مواد تمتص جزءاً من الأشعة الرادارية الساقطة عليها وتبعثر الجزء الآخر في اتجاهات مختلفة عن جهة الطائرة المهاجمة، بالاضافة إلى ان هذه المواد تمتص الأشعة الحرارية (تحت الحمراء) المنبعثة من المعدة المحمية لتمنع أجهزة التهديف والاستطلاع المعادية من التقاطها.
هـ- التشديد على تطبيق إجراءات الحماية الالكترونية الوقائية..
الحماية الالكترونية (Electronic Protection, EP) أو ما كان يسمى سابقا التدابير الالكترونية المضادة للمضادة (ECCM) تتضمن اتخاذ كافة التدابير لحماية الافراد والمعدات والمرافق من أي تأثير ناشئ عن استخدام الحرب الالكترونية سواء كان الاستخدام من قبل القوات الصديقة أو المعادية والذي قد يضعف أو يدمر أو يعمل على تحييد القدرات القتالية للقوات الصديقة ويمكن تقسيم الحماية الالكترونية إلى النوعين التاليين:
(1) الحماية الالكترونية العلاجية: وهي كافة الأعمال المتخذة لتجاوز أو تقليل الآثار السلبية للهجوم الالكتروني المعادي على أنظمة الأسلحة وهذه الأعمال جزء من اجراءات تشغيل الأجهزة مثل تشغيل دوائر الحماية الالكترونية لذلك يكون تنفيذ اجراءات الحماية الالكترونية العلاجية من مسؤولية مشغلي الأجهزة، وتتم اثناء وقوع الهجوم الالكتروني المعادي.
(2) الحماية الالكترونية الوقائية: تشمل الأعمال المنفذة في السلم والحرب لحرمان الاسناد الالكتروني المعادي من التقاط وتحليل الاشارات الكهرومغناطيسية بالاضافة إلى الأعمال المنفذة قبل وقوع الهجوم الالكتروني المعادي للتقليل من آثاره السلبية على أنظمة الأسلحة عند وقوعه، مثل تطبيق خطط التحكم بالبث والتشفير والتركيز على استخدام الاتصالات السلكية، ومسؤولية تنفيذ هذه الأعمال تقع على عاتق جميع منسوبي منظومة الدفاع الجوي وهذا النوع من الاجراءات يجب التشديد على تطبيقها ومعاقبة مخالفيها لأن الاخلال في ذلك يوفر مصدر معلومات مهماً للخصم، ويمكنه من بناء وتحديث قاعدة المعلومات التي يحتاجها لتنفيذ هجماته الالكترونية بفاعلية.
و- استخدام التوجيه الانقضاضي (Homing Guidens).. هناك عدة طرق لتوجيه الصواريخ (أرض-جو) نحو الهدف المعادي، ولعل أنفعها عند التعرض للهجوم الالكتروني هي طريقة الانفضاض على المشوش Home on) (Jammer, HOJ وهذه الطريقة إما ان تكون الطريقة الرئيسية لتوجيه الصاروخ أو امكانية اضافية يمكن تركيبها في الصواريخ الشبه فعالة Semi) (Active Missiles.
ز-التدريب تحت تأثير الهجوم الالكتروني.. التمارين الميدانية في ظروف مثالية خالية من الحرب الالكترونية تعطي انطباعا جيدا عن امكانيات أنظمة الأسلحة ولكنه بالتأكيد انطباع خداع لأن الأنظمة وهي تحت تأثير الهجوم الالكتروني يختلف أداؤها وتقل فاعليتها وبالتالي من الخطأ الفادح استخدام نتائج هذا النوع من التمارين لتقييم القدرة القتالية والتخطيط لذا يجب تكثيف التدريب العملي والتمارين الميدانية في بيئة مشبعة بالحرب الالكترونية ليتقن ضباط ومشغلو أنظمة الأسلحة استخدام دوائر الحماية الالكترونية المتوفرة في أنظمتهم ضمانا لاستمرار العمل تحت تأثير الهجوم الالكتروني وبالتالي يكون التقييم حقيقيا والتخطيط سليما.
4- الخلاصة
تعتمد أنظمة الدفاع الجوي الحديثة في أدائها على الاشارة الكهرومغناطيسية وميدان المعركة المعاصر مشبع بالمؤثرات الالكترونية التي تحد من الامكانات المثالية لهذه الأنظمة لذا على قادة منظومات الدفاع الجوي الأرضية في جميع المستويات ان يضعوا في اعتبارهم امكانات التهديد الالكتروني المعادية عند اعداد خططهم الدفاعية.
اللواء الركن أحمد بن لافي العبلاني
نائب قائد قوات الدفاع الجوي |