الشعوب المنتجة هي الشعوب التي تنشغل بذاتها وتسعى لتصلح ما فسد من مكوناتها، ولتقيم ما أعوج من أركانها. وفي المقابل تأتي الشعوب المتشاغلة بالآخرين، الباحثة عن موطن المشكل المجتمعي في حقائب الغير، المتسلّية بإلقاء الملامة على سوى الذات، بشكل تسعى فيه جماعات معينة ان تهيمن على الأخرى مستندة إلى حجج فكرية وسلوكية كثيرة تتفق في معظمها على الرهان الوطني، والمجتمعي وأحياناً الأممي. ولأن المجتمعات البشرية ليست إلا مجموعة من الأفراد، فإن القاعدة ذاتها تجري على الأفراد أيضا.. فالأفراد المنتجون الفاعلون والمؤثرون حقاً في تاريخ أوطانهم، هم الأفراد المعنيون بذواتهم والمفتشون عن عيوبهم في داخلهم، والتاركون عثرات الناس للناس. وعندما ننظر إلى واقع مجتمعنا السعودي ندرك حقيقة مهمة جداً وهي أننا مجتمع يتسم - بحمد الله ومنَّته - بوحدة عقدية وفكرية متميزة، الأصل فيها أن تنتج مجتمعاً متجانساً متكاملاً يعين بعضه بعضاً، وقد كان هذا هو السائد، حتى زماننا المتأخر الذي بدت تخرج فيه كيانات، ويخرج فيه أفراد يعتقدون أهليتهم للوصاية المطلقة على الناس والأشياء من حولهم؛ فهم دون غيرهم أهل العلم و الفهم والدراية، وكل ما لا يروق لهم ليس إلا ما يكتنفه الخلل، وتحيط به الشبه، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تجاوز الحدث نفسه إلى صاحب الحدث، وظاهر الفعل أو القول، إلى باطن النية والقصد، مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، غير ان فرط إعجاب المرء بذاته قد يؤدي إلى الاعتقاد بأنه أهل لما ليس أهل له. إن في الوصاية على الآخرين لذتين مذمومتين:
الأولى: الإعجاب المفرط بالذات والاعتقاد بأن ما يملكه الفرد فكراً وسلوكاً هو الذي يجب أن يسود.
الثانية: رفض الآخر فكراً وسلوكاً والعزوف (المقنن المؤدلج) عن التفاعل معه، لأن لدى المعجب بذاته مواطن نقص عديدة، قد يكشف عنها ذلك الآخر وهو الأمر الذي لن يروق لمن هذه حاله.
وقد فوتت لذة الوصاية تلك علي مجتمعنا الكبير، مكاسب عديدة، وأوجدت فيه ثغرات تسلل من خلالها المريدون للسيادة لمنافع السيادة، سواء منهم من هو في الداخل أو في الخارج ممن سخرهم لخدمة أغراضه من كيانات خارجية تشعر هي أيضا بلذة الوصاية على الآخر، ولكن وفق منظومة مجتمعية دولية واسعة.
المنقذ اليوم لمجتمعنا الكبير أن تقنن العلاقة بين الناس بشكل جديد أكثر اتساقاً مع المرحلة المتقدمة التي وصل إليها المجتمع في رحلته للتحضر والتمدن، ليعرف كل امرئ حدود صلاحياته، وحقوقه وواجباته تجاه الآخرين، فنخرج من دائرة الوصاية من أجل السيادة، إلى دائرة أرحب، قوامها الاتساق المجتمعي الشامل القائم على فهم صحيح للمنهج الشرعي الصحيح كما جاء من عند الله تعالى، وفي سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وليس كما يراه هؤلاء أو أولئك من مريدي أدلجة الوصاية.
ربما أوتينا من أن من بيننا من يروق لهم ان يتنازعوا مقاعد الوصاية على الآخرين في المجتمع، ليتحقق لهم أشياء من السيادة، ويخسر الكيان الكبير، ويظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|