* نقول:
(حُزني ثقيل ٌ فادحٌ هذا المساءْ
كأنه عذابُ مُصْفَدينَ في السعير
حُزْني غريبُ الأَبَوَيْن
لأنه تكوَّن ابْنَ لحظة مفاجئةْ
ما مَخضَتْهُ بَطن
أراه فجأةُ إذ يمتدُّ وسْط ضحكتي
مُكْتملَ الخِلقةِ، موفور البدَن)
(صلاح عبد الصبور)
* أتساءل، دائماً، لماذا، الشعراءُ، والحُزْن، كأنهما ضفَّتان، أزليتان أبديتان، لنهرِ (الألفاظ) المتدفق؟. ولا أقصد، هنا، شعراء البكائيات، والتشاؤميات المشهورين، فهذه (إعلانات) و(يافطات)، تصنيفية، تسويقية، يرتاح بها، الناقد السطحي والقارئ العابر، والتلميذ المتقدم إلى امتحانات (النُّصوص) في المرحلة المتوسطة. إنما أعني، ذلك (الشَّيء)، الظاهر كأنَّه خفي تتلقاه، وتشعر به، في (الكلام) وانتظاماته، ونسقه، وفي (الموسيقى) وإيقاعها، وفي (الفواصل) وعنْد الوُقوف، والالتفاتة، واستراحة (العطف) و(السكون). تْحسَّ بالمذاق، ولا تلمس طعاماً، وتشمَّ الرائحة ولا ترى زهْرا.
(هُناك شيء في نفوسِنا حزينْ
قد يختفي، ولا يَبينْ
لكنه مَكْنُونْ
شيءٌ غريب.. غامض.. حنون)
* ويأمل، ويحلم، صلاح عبد الصبور أن يعرف هذا الحُزن، وينظر إليه ويحدق فيه، لكي يستبينه على حقيقته:
(لو كان للإنسان أن يعيش لحظة العذاب
... مرَّتين
بكل عُمقِها الكئيب، الساذَجِ المقْرُورْ
وأن يلِدَ الآهةَ.. مرَّتين
خالِصةً بلا سُرورْ
وأن يجسَّ ذلك الشيء الحزين جِسَّتين
لكي يرى فجاءَتَهْ
ويستبين وجهَهُ ومِشْيَتَهْ
لو اتكأت.. أيها الشيءُ الحزين مرةً على مرافئ العيونُ
لو ركبكَ المسافرون...
... ينزلُون)
* لأن المسافر، حينئذ، يكون قدْ بلَغ، والمَهَمة انتهَتْ، ولكن هيهات أن يكون الحزن، عند (الشاعر) سَفَرا له نهاية، أو عمقاً، له قاع، أو فضاءً له أُفق، أو تنهيدة، لها مدى، يأتي بعدَها، سكون، واستجلاءٌ، واستقرار.
* الحزن عند الشاعر (صلاح عبد الصبور)، مهمة مستمرة، وبلاغٌ أوَّل وبلاغٌ أخير، وإيقاع لا ينقطع، حتى في (كلام) الحب، أو كلام الغَزل، أو حِوار، مسرحه الشعري، ولكنه، الحُزن الكامن، المتربص، في عمق الأشياء، والشّخوص، وحتى عندما ينطقه الشاعر، ويتلفظه، واضحاً، شاخصاً، مدوياً، يكاد، يختفي في لحظة (الظهور)، ويتوارى في لفتة (المُشاهَدة، ويتبخر، عندما توشك، أن تحكُم عليه قبْضتك.
(لقد بلَوْتُ الحُزنَ حين يزحَمُ الهواءَ كالدُّخان
...
...
ثُم بلوْتُ الحزن حين يلتوي كأُفعوانْ
......
.....
ثُم بلَوْتُ الحَزنْ حينما يفيضُ جدولاً من اللهيب
.......
.......
......
لكن هذا الحُزن، مسْخٌ غامضٌ، مستوحشٌ غريبْ
فقل لهُ يارب أن يفارقَ الديارَ
لأنني أريدُ أن أعيش في النهار.
* هُو (الحزن) الذي، لا نعرفه، حقيقةً، نحن، (العوام)، المتشدقون بالألفاظ، (الأدعياء) بالمعاني و(العلوم)، المتمسحون ب(أوهام) المعارف، الجلََّية، الظاهرة.
(لكنكم لا تعرفون الحُزْن، يا سادتي الفرْسان
(وإن عرفتموه، فهو ليس حُزني)
حزني، لا تطفئه الخمْرُ، ولا المياه
.... ...
.... .....
حُزني، لا يفنى، ولا يُستحدث.
* قد، نتساءل، ونتسامرْ، ونتشَاطَرْ حْول سر الحزن
الغريب، المتجوِّل المتشرد، الحافي، العاري، عند الشاعر
صلاح عبد الصبور، وعن كل (شاعر) حقيقي، ولكن يجدُر بنا أن نبتعد عن (الشاعر).. قليلاً، ونترك له مساحة للتنفس لأننا - نحن (الآخرون), قد نكون، سِرَّ حزنه، في لحظة ضيقه وتبرُّمه.
(كنت أَحسُّ سادتي الفُرسان
أنَّكمُو.. أكْفان
وكان هذا سرَّ حُزني)
(صلاح عبد الصبور)
|