Monday 19th April,200411526العددالأثنين 29 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الوهم والحقيقة الوهم والحقيقة
عبدالرحمن الحبيب

لو افترضنا أن هناك بنكين في مدينة صغيرة، البنك الأول وضعه المالي جيد، والآخر على شفير الإفلاس دون علم العامة، وافترضنا أن جهة إعلامية ضخمة قلبت الحقيقة وهماً والعكس، أي زعمت أن البنك الأول مفلس.. فإن المساهمين في البنك المستقر سيسحبون أرصدتهم وبعض منهم يوجهه للبنك الثاني، هنا لا قيمة فعلية للحقيقة بل القيمة للإدراك الوهمي للحقيقة، مثل هذا الوهم يؤدي إلى إفلاس الأول وإنقاذ الثاني، فيتحول الوهم إلى حقيقة فعلية ذات نتائج ملموسة! فمن يحدد أيهما الوهم وأيهما الحقيقة، وكيف يميز الإدراك بينهما؟طرح الأسئلة أهم من الحصول على الأجوبة الجاهزة. الإجابة عن السؤال قد لا تجد نفعاً، إما لأن السؤال لم يطرح بالطريقة أو المنهجية (المناسبة)، أو لعدم توفر معطيات كافية للإجابة، أو لعدم أهليتنا للإجابة الحقيقية لأننا منحازون بالضرورة إلى إجابة تتناغم مع معارفنا وإدراكاتنا السابقة أو مصالحنا. وقد تكون الإجابة عن السؤال محض وهم مجرد، ولكنه فعّال ومفيد (براجماتي)، إذا اتصف ببعض الحالات المتساوقة مع واقعه ومع مستوى الإدراك البشري لتلك الحالات، لكن هذا الوهم قد يتعرى في أقرب حالة مضادة زماناً أو مكاناً.
هناك حدود موضوعية في قدرة الإنسان على تلمس الحقيقة، فالعلم لم يسيطر، بعد على الطبيعة ولا على الغرائز الطبيعية ولا على أدوات ووسائل التفكير والاتصال الذهني. ذلك ما استدعى (مي غصوب) على طرح تساؤلها: (ما الذي يمكن أن تكونه الطبيعة حين يتحد المشير والمشار إليه؟ أو حين يتحد الشيء وصورته إلى حد لا تعرف معه ما إذا كانت الثقافة هي التي تجعلنا نرى الشيء كما نراه، أو أنه فعلاً بذاته هكذا؟). وربما هذا ما دعا فرانسيس فوكوياما إلى الزعم بنهاية التاريخ (نهاية التاريخ البشري التقليدي)، حين يتحرر الإنسان من تلك النواقص، عندما يتمكن العلم، خاصة التطورات في التقنية الحيوية، من تفسير الظواهر الطبيعية والسلوكيات الاجتماعية والنفسية.
وفي ظني أننا نعيش - على المستوى العالمي - زمن ما بعد الحداثة المتميز بالإغراق بالشك المتجاوز لنظرية الشك الديكارتية، والنسبية المفرطة في احتمالاتها، فمفكرو ما بعد الحداثة يرون أن النظريات الشمولية الكبرى والإيديولوجيا ت التي أنتجتها الحداثة وتراثها المعرفي (ديكارت، هيوم، كانت، هيجل، ماركس، سبنسر، نيتشة..) رغم تجاوزها للميتافيزيقا في أغلب حالاتها، أخفقت في الإجابة عن كثيرٍ من الأزمات، رغم ادعائها الموضوعية المتجردة من الانحياز وزعمها بالتجانس والتماسك والعلمية، وسعيها اللاهث وراء الحقيقة بواسطة منطق أخلاقي عقلاني وافتراضات متفائلة تؤمن بأن التقدم العلمي والتكنولوجي يصاحبه بالضرورة تقدم في الحقوق والمبادىء الإنسانية والسعادة البشرية، بينما حركة التاريخ حركة مفرطة في جدليتها، عبر مساراتها اللولبية المتشعبة، فهي ليست بالضرورة خطية أو مستقيمة أو منطقية، وهي ليست بالضرورة إيجابية بل إنها في بعض المجتمعات أدت إلى كوارث كالاستعمار والحروب العالمية المدمرة وتخريب البيئة. لذا يرفض ما بعد الحداثيين التعميمات الشمولية مفضلين تأويل العالم والأشياء كخصوصيات بسياقاتها ومستوياتها المتعددة، ولا يميلون للتجانس الذي يلغي التنوع الحاصل فعلاً، ويعترضون على وضوح الفكرة مقابل التضحية بدقتها، وينأون عن الأجوبة القطعية المريحة متبنين الاحتمالات الواقعية المتعددة المزعجة للحالة، ويرفضون الأجوبة الكاملة الشاملة لكل الحالات مستعيضين عنها بالأجوبة النسبية والجزئية والمتشعبة اللانهائية وغير المستقرة لكل حالة.
المدرسة الوضعية التي أنتجتها الحداثة - والتي لا تزال تسيطر على عقلية أغلب المثقفين العرب - تعتقد بوجود حقائق موضوعية يمكن توضيحها وتفسيرها والاستفادة منها بواسطة استقصاء فكري ممنهج منظم أو نظرية موضوعية قابلة للاختبار ومجردة نسبياً من أية ثقافة مسبقة أو مصالح أو حالة مزاجية. لكن يرى ما بعد الحداثيين أن الوقائع بيّنت لنا أن ذلك مجرد وهم أو خدعة لصور ذهنية تزعم التجرد من الانحياز، لأنه لا يمكن فصل الحقائق عن المراقب لها الذي يزعم إدراكها وتمييزها، ولا يمكن فصل ذلك عن الثقافة التي تزوده بالتصنيفات المعيارية. باختصار، ان إدراك الحقائق الواقعية مجردة عن الذات والثقافة المسبقة والمصالح غير متاح، وبالتالي فإن الموضوعية وهم وغير موجودة في هذا العالم، وخير للمراقب أن يخبرنا عن نفسه وعن ثقافته وليس عن الحقائق التي يزعم إدراكها، وحتى في هذه الحالة فإنه ليس هناك الكثير مما يمكن أن يخبرنا به، لأن الحقيقة مراوغة متعددة الأشكال والمفاهيم والمعاني فينبغي استبدال الحقيقة الموضوعية بالحقيقة التأويلية لأنها تحترم ذاتانية موضوع الاستقصاء والمستقصي والمتلقي.
وبحسب الفرضية السابقة خاصة مع الإفراط فيها والغرق في النسبية اللامحدودة والتأويلية الذاتانية تكمن أحد مآزق ما بعد الحداثة، وهي تحديد أو تعريف أو تفسير الأشياء. فإذا كانت الحواجز ملغاة على هذا النحو واللغة منحازة والمنهج تلفيقي والموضوعية وهم؛ وإذا كان التعريف يتّحد مع صورته أو لغته لدرجة لا يعرف معها ما اذا كانت اللغة هي التي تعرِّف الأشياء كما تراها، أم أنها حقيقة هي ذلك التعريف، أم بين هذا وذاك أم شيء آخر.. عبر كل ذلك، كيف يمكن تعريف الأشياء وإبراز معانيها؟لكن ما بعد الحداثة لا تعني الفوضى التنفيذية على أرض الواقع، بقدر ما تعني الاقتراب من الدقة ومحاولة قبول وفهم العالم، وقبول عجزنا على تفسير كثير من الظواهر. عدا عن ذلك، أنا أوافق الأستاذ عبدالرحمن طربزوني فيما ساقه من أن: (العلماء والمفكرين حول العالم يتفقون أن الطريق الأمثل لحل أي مشكلة طبيعية حيوية أو نظرية بحتة هو استخدام منهج (التفكير النظامي)؛ إنما الاختلاف هو أن هذا المنهج يجدر به أن يكون سبباً ولا نهائياً.. أو ربما أقول ظني.. أو كما جاء في الأثر فيما ينسب إلى عمر بن الخطاب: (لن ينتفع أحد بعقله حتى ينتفع بظنه)!.
يقول الفخر الرازي مازحاً حول تناقض المعرفة:


نهاية اقدام العقول عقال
وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
حاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved