في هذه الحلقة - وهي الحلقة الأخيرة من الحديث عما يدلُّ عليه العنوان المبني أساساً على ما تروِّجه الإدارة الأمريكية الحالية من مشروع سمَّته الشرق الأوسط الكبير - محاولة للإجابة عن السؤالين المتعلقين باختيار أمريكا منطقتنا الإسلامية للأمركة، وتوقيت هذا الاختيار. وكانت الحلقات السابقة قد أوردت من تاريخ قادة أمريكا المتعاقبين على الحكم ما يدل على أنهم بدأوا تاريخهم بجرائم ضد سكان تلك القارة الأصليين، وأساءوا معاملة من أُتي بهم إليها من أفريقيا، ثم ارتكبوا جرائم شنيعة ضد الأمم الأخرى، ووقفوا جميعاً مؤيِّدين للصهاينة، سياسياً وعسكرياً ومالياً، إلى درجة أن الإدارة الحالية مضت إلى أبعد الحدود في تبرير جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني، وتأييدها.
إن من الغباء المؤسف، أو التغابي المؤلم، أن يوجد بين الكتَّاب العرب والمسلمين من يهملون العامل الديني في تعامل قيادات الغرب السياسية بعامة، وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة، مع العالم الإسلامي، قيادات وشعوباً.
هذا العامل مؤكد عليه في كتاب الله الحكيم الحميد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي حديث من أُنزل عليه هذا الكتاب الكريم، الصادق المصدوق، نبيِّنا محمد، صلّى الله عليه وسلم.
والتاريخ لمن يعوِّلون على التاريخ فقط يؤكد - هو الآخر - على أهمية العامل الديني في العلاقات بين الغرب والمسلمين تزلّف إلى قادة ذلك الغرب من تزلّف من أمتنا، استجداء لعطفه، في التقليل من شأنه أو لم يتزلّف.
لقد كانت البعثات التنصيرية، منذ القرن السادس عشر الميلادي على الأقل، ممهّدة لمسيرة جحافل جيوش الغرب الاستعمارية حيناً، ومتزامنة مع تلك المسيرة حيناً آخر.
أما قادة أمريكا فالأبرز في تاريخهم أن أكثرهم - إضافة إلى جهودهم التنصرية الواضحة في كثير من بقاع العالم الإسلامي، بما فيها منطقة الخليج العربية - يتبنّون مذهباً دينياً من أهم مبادئه الاعتماد على ما يسمّى بالعهد القديم. ومعتنقو هذا المذهب يؤمنون أعمق الإيمان بوجوب مناصرة الصهاينة في فلسطين المحتلة مناصرة غير محدودة.
ولقد شكّل عمق إيمانهم هذا سبباً مهماً في وقوفهم مع هؤلاء الصهاينة قبل إقامتهم كيانهم وبعد إقامتهم له، وتمادوا الآن في دعمهم لهم إلى حدود مقيتة جداً، ومهينة للعرب والمسلمين بعامة، ولقادتهم المتصدّين لحمل المسؤولية بخاصة.
وإذا كان ما سبق ذكره هو الواقع فإن أسباب اختيار أمريكا لمنطقتنا الإسلامية للأمركة واضحة، وفي طليعتها:
1 - أن أركان الإدارة الأمريكية يتبنّون فكراً دينياً أشير سابقاً إلى أن عمق الإيمان به يوجب مناصرة الصهاينة بكل الوسائل.
ومع أن مسرح جريمة هؤلاء الصهاينة المباشر هو فلسطين فإن لفلسطين عمقاً عربياً وإسلامياً. وكل تغيير يهدف إلى أن يسود الفكر الذي تريد أمريكا سيادته في منطقتنا الإسلامية من نتائجه المتوقعة إضعاف الشعور العربي والإسلامي، الذي يرى أن قضية فلسطين العادلة قضيته الأولى.
2 - أن قوة الاتحاد السوفييتي زالت عن مسرح المنافسة العسكرية مع أمريكا، وأصبحت هذه الدولة متفرغة للقضاء على أي خصم قد يتوقع منه تحدِّي غرورها وانفراد تسلُّطها في العالم.
ولقد أدركت ازدياد ثقة الفرد المسلم بالله ثم بنفسه نتيجة ما حققه المقاتل العربي المسلم في حرب 1973م، وهو يردِّد في المعركة كلمة: الله أكبر، وما أبداه المقاتلون في أفغانستان من بطولات بغض النظر عن نكسة الانقسامات والأخطاء، وما حقَّقته المقاومة الشجاعة من نصر في جنوبي لبنان، وما أبدعته المقاومة الفلسطينية من روائع البسالة رغم محاصرتها من جميع القوى المحيطة بها. وإضافة إلى كل ما سبق من مقاومة ذات طابع إسلامي في مناطق مختلفة حقَّق التوجه الإسلامي نجاحاً كبيراً في النقابات الفاعلة في المجتمع. وهكذا أثبت التوجه الإسلامي قدرته ميدانياً عملياً، كما أثبت تفوُّقه قبولاً لدى فئات المجتمع الفاعلة. فأصبح حتماً على الإدارة الأمريكية المتحدة اتحاداً إستراتيجياً مع الكيان الصهيوني، المؤيِّدة له بدافع ديني، أن تسعى بكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والإعلامية لمحاربة التوجه الإسلامي المتنامي في المجتمعات الإسلامية.
3 - أن منطقتنا الإسلامية ذات إمكانات اقتصادية، وبخاصة في حقل النفط والغاز. والتحكُّم فيها، سواء عن طريق الاحتلال العسكري أو عن طريق الإملاءات السياسية والاقتصادية، أو عن طريق إشاعة ما تريده من فكر في مجتمعاتها، يخدم بالدرجة الأولى مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني.
نعم في منطقتنا الإسلامية كثير من الأمور التي تحتاج إلى إصلاح. لكن ألا توجد مناطق أخرى في العالم تحتاج إلى إصلاح؟
هل يصدّق عاقل أن أمريكا تريد إصلاحاً لمنطقتنا الإسلامية؟ هل تريد أن يسود ما في الديمقراطية من إيجابيات في هذه المنطقة وهي التي اشتهرت بالتآمر على حكومات انتخبت انتخاباً شعبياً نزيهاً وإحلالها بأنظمة دكتاتورية عسكرية؟ هل تريد سيادة حقوق الإنسان وهي التي مارست وما زالت تمارس جرائم ضد هذه الحقوق، وبخاصة في تعاملها مع الآخرين وتأييدها غير المحدود لجرائم الصهاينة؟
أما توقيت اختيار منطقتنا الإسلامية للأمركة في الوقت الحاضر فمن أهم أسبابه ما أصبح عليه قادة العالم الإسلامي - وبينهم القادة العرب - من فرقة واختلاف، وما أصبحت عليه الثقة بينهم وبين شعوبهم من ضعف. ولهذا وذاك فإن أمريكا تعتقد بأنها قادرة الآن على تحقيق ما تصبو إليه من هيمنة متعدِّدة الجوانب على المنطقة.
|