فإن العلماء هم ورثة الأنبياء الآخذون بأهم تكاليف النبوة وهي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتوجيه الخلق إليه ودلالتهم عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلماء هم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، وإنه لا قيام للإسلام إلا بهم، فإنهم هم حماته وحاملو راياته والقوام به وهم زينة الأرض ونورها وروح الأمة وقلبها النابض والناس إنما هم تبع لهم، والعلماء هم الذين ينفون عن الدين تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين، وقد أشهدهم الله على إلوهيته وربوبيته فقال تعالى {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) سورة آل عمران. والعلم هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، والناس إما مقل من هذا الميراث وإما مستكثر وإن الله إذا أراد بعبد خيراً رزقه السعي في تحصيله وطلبه، وقد فضل كثير من العلماء العلم الشرعي على كل العبادات؛ لأنه لا سبيل لمعرفة الشرائع والعبادات إلا بالعلم، قال الإمام أحمد: (العلم لا يعدله شيء إذا صحت النية) ففضل العلم جليل عظيم ولا سيما مع فشو الجهل وذهاب العلماء الذي هو من أشراط الساعة كما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل). وقد بيّن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ان رفع العلم إنما هو بموت العلماء فقد روى الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وإن من أهل العلم والدعوة في هذا الزمن فضيلة الشيخ عبدالسلام بن برجس بن ناصر آل عبدالكريم رحمه الله الذي استوفى أجله واستكمل مدته ليلة السبت الثالث عشر من صفر من شهور سنة خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة، والذي جمع الله له من حميد الخصال وكريم الخلال الشيء الكثير، علمٌ في حلم، وحزمٌ في عزم، وتواضع جم، ودماثة خلق، وحرص على عمل الخير، يأسر القلوب ببشاشة وجهه وإشراق بهجته، وبهاء طلعته، وطلاقة محياه، وكان رحمه الله حسن السمت، بعيد الإناة، كريم الخلق، سخي النفس، لم أر مثله أرحب صدراً لطالب. وأحسب أن له نصيباً كبيراً من قوله صلى الله عليه وسلم, فيما روى الشيخان (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً) وهو والله خليق بقول الشاعر:
نظراته لُطفٌ وبسمته
رُحمى وعَذبُ حديثه نَشْرُ |
وقد عرفناه غيوراً على الحق ثابت الجنان، جرئ الصدر، ناصحاً لأمة الإسلام، حاملاً على عاتقه أمانة العلم، محباً لمشايخه وإخوانه وطلابه، شغوفاً بالعلم ومولعاً به، غيوراً على دينه وبلاده، داعياً إلى الله على علمٍ وبصيرة، حريصاً على نصرة الحق وقمع البدع والذب عن حقيقة الدين وعن حريم الإسلام، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كثرة الموانع واشتداد الحالة، ولا ندعي له العصمة ولا نزكي على الله أحداً ولكن نحسبه كذلك وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ووالله لقد أحزننا فقده وعظم علينا، وأمضنا فراقه وآلمنا ولكننا منقادون لمحتوم القضاء ولا نقول إلا ما يرضي رب الأرض والسماء, وكلنا إلى الله صائرون فإنا لله وإنا أليه راجعون. وحزننا على الشيخ رحمه الله ليس حزناً على شخصه فحسب بل هو حزنٌ على ثروة كبيرة من العلم والأخلاق الحميدة وحسن المعاملة وفعل الخير، ولقد كانت الأمة بأمس الحاجة إلى مثله في هذا الزمن الحالك وقد قال أحد الذين وقفوا على قبره: إن الشيخ عبدالسلام كان درعاً من دروع الإسلام.
ولا أدل على منزلة الشيخ رحمه الله من تلك الجموع الغفيرة التي حضرت الصلاة عليه ودفنه يتقدمهم كبار العلماء والدعاة والأعيان من أهل الدين والخير والفضل.
وأما رسالتنا لأسرة الشيخ فنقول: إننا شركاؤكم فيما نزل بكم ودهاكم، واعلموا جبركم الله ان المؤمن لا تصرعه الشدائد ولا تهده العظائم ولا تضعضعه النوائب إذا ما التجأ إلى ربه وعاذ بخالقه، فاصبروا واحتسبوا، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وإن عاقبة الصبر لحميدة، وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، وهنيئاً للشيخ إن شاء الله ما قدم من عمل صالح ومن دعوة إلى الله ومن تعليم وتأليف، فإن كتبه وأعماله حسنات جارية له حياً وميتاً بإذن الله، وقد مضى رحمه الله ولم تمض مآثره ومكارمه ومحاسنه، ويا أسرة الشيخ إن من العرفان للفقيد رحمه الله أن تتعاهدوا آثاره من كتبٍ ومحاضرات فتخرجوا ما لم يخرج منها، وتعيدوا طباعة ما نفد منها، لكي تكون حسنات جارية له وهو في جدثه إن شاء الله.
وها هي الأمة تودع علماءها وصلحاءها الواحد تلو الواحد فعلينا أيها المسلمون أن نشمر عن سواعد الجد وأن ننفض غبار الكسل وان ندرك من بقي من أهل العلم فنفيد منهم، وعلينا أيضاً ان نتجهز للقاء الله تعالى ما دمنا على وجه الأرض قبل ان يبغتنا الموت. وأن نضع بين أعيننا قوله تعالى{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُون} 65-66َ سورة القصص .وختاماً أقول رحم الله الشيخ عبدالسلام وأعلى درجته وأكرم مثواه وجزاه عنا خير الجزاء، وأحسن الخلافة في ذريته وفي جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|