كل شيء يمكن أن أنجح فيه إلا أن أكون مديراً على بشر. هذا ما تعلمته في حياتي العملية المديدة. كلفني الوصول إلى هذه الحقيقة حوالي عشرين عاماً والاعتراف بها أمام نفسي استغرقني حوالي خمس سنوات والاعتراف بها أمام الآخرين حوالي خمس سنوات أخرى. ولكن ما هي الكلفة التي دفعتها الإدارة التي عملت بها ثلاثين سنة كمدير؟ الله وحده يعلم.
بهذا بدأ صديقي المتقاعد سلسلة اعترافاته. يقول: لم أكن في يوم من الأيام مؤهلاً أن أقود غنماً فضلاً عن بشر. ولكن الصراعات والطموحات هي التي تحدد مستقبل الإنسان لا القدرات والإمكانات. كان يمكن ان أكون شيئاً مهماً في المجتمع. كان يمكن أن أكون طياراً ماهراً أو فناناً كبيراً أو كاتباً عظيماً أو عالماً أي شيء إلا العمل الذي صرفت فيه حياتي.
على حد كلامه بدأ حياته العملية بعد أن حصل على الشهادة الثانوية قسم علمي بتقدير جيد جداً. هذا الكلام في السبعينات الميلادية في الفترة التي كان الموظف السعودي جوهرة نادرة. التحق بواحدة من تلك الوزارات التي يتخمر فيها الموظف ويندوش ويتحول بعد فترة وجيزة إلى شيء يشبه المهمل وليس بمهمل وإلى شيء شبه المرجوج وليس بمرجوج وإلى شيء يشبه الإنسان المنتج وليس بمنتج وإلى شيء يشبه الرجل المنظم وليس بمنظم. يعني الوزارات التقليدية التي لا ينتبه الإنسان بضياعه إلا بعد أن يتقاعد ويتفكر في السنوات التي قضاها فيها لا يعرف بالضبط ماذا فعل. هل أنتج أم لا؟ هل أسهم في شيء أم لا؟ هل كان يعيش تلك الحياة أم كان يحلم بها؟ والأسوأ من هذا أن راتبه كان كالسراب. كان يعتقد انه يتحسن وهو في الواقع يزداد سوءاً. يرتفع حوالي ثلاثمائة ريال في السنة والأسعار تزداد ستمائة في السنة. ازداد الرقم وتدنى مستواه المعيشي.
ولكنه لم يعرف هذا إلا بعد أن أحيل للتقاعد واكتشف انه لا يستطيع أن يسمكر أسنانه. كان عليه في شبابه أن يقلل من الضحك حتى لا يفقد هيبته أمام موظفيه فأخفى أسنانه واليوم أخذ يقلل من الضحك حتى لا تظهر أسنانه الخربة. على أمل أن يصله السرا في مركز الأسنان في مستشفى الشميسي، ليعاود الضحك الذي تركه عندما كان طالباً في الثانوية.
ان أفضل ما يملك هي هذه التجربة التي تحولت إلى كومة من النصائح لا يريد أن يسمعها منه أحد مع الأسف. وصل إلى منصب مدير إدارة وهي الخطوة الحاسمة للانتقال إلى مدير عام والإحساس بأنه أصبح من كبار الموظفين على الأقل أمام زوجته وأقاربه. لكن الظروف لم تسمح له بالتحرك أكثر من مدير إدارة ولا يريد أن يضيف السبب إلى مذكراته لكيلا يتهم بالوشاية وإفشاء أسرار العمل. لأن منصب مدير عام يحتاج إلى قوة غير قوة الدفع الذاتية يحتاج إلى يد خفية من قريب أو عزيز. وهو هنا يتكلم بصفة عامة وليس عن تجربته أي يقدم نظرية عامة تنطبق على الجميع في الوصول إلى مدير عام. ويضع بين قوسين قوله (ترى ما أتكلم عن نفسي مفهوم).
التعويذة الأساسية التي ينطلق منها العمل في الوزارة التي عمل فيها طوال عمره هي (التوفيق). لا يوجد في تلك الوزارة كلمات مثل (نجاح)، (قدرة)، (مواهب)، (تدريب) كل شيء فيها يقوم على التوفيق. (فلان توفق وفلان الآخر ما توفق) وهناك كلمة أخرى رديفة لهذه وتفسرها وهي كلمة (حظه) وكلهم هو زملاؤه مشوا في السلم الوظيفي إما بالحظ وإما بالتوفيق. وسعيد أخو مبارك. على فكرة هذا مثله المفضل وليس من عندي. وسوف يتكرر كثيراً في مذكراته لأن الحياة في نظره أصبحت (سعيد أخو مبارك).
نكمل بعد غدٍ.
|