هل من ينسى خلدة في صهيب ذلك الصيف الساخن. تلك البلدة الصغيرة الوديعة التي كانت تغفو ببراءة ودلال على كتف البحر المتوسط وترتع بالقرب من أحضان مزارع الجنوب اللبناني غير بعيد عن مدخل بيروت دون أن تعبأ بصخب تلك المدينة الملتهبة ولا بتعددها الطائفي ولا بالانقسامات السياسية فيها وعليها وحولها حين فجأة هبت من حرير ذلك الحياد الرومانسي وتحولت في أقل من لمح البصر إلى حورية ضارية في وجه وحشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م.
لن يجرؤ التاريخ وإن خانتنا الذاكرة أن ينسى مقاومة أهالي خلدة بأجسادهم العزلاء إلا من إرادة الصمود وانتفاضات الإحساس بالكرامة والانتماء في الوقوف الشجاع في وجه جيش العدو الصهيوني المدجج بأقسى ترسانة الأسلحة الأمريكية.
ولن يسمح لنا التاريخ جيلاً بعد جيل أن ننسى معركة الكرامة التي انطلقت من أغوار الأردن لترد الاعتبار لتلك الأجنحة المهيضة من ذل نكبة 48 ونكسة 67.
وليس لأي منا أن ينسى عرس الجنوب اللبناني الذي رفع عن العالم العربي بصمود ومقاومة أهله الشرسة أعواماً من مهانة الاستسلام لليأس والتلذذ بزعاف الهزيمة.
كما ليس لأي منا إلا أن يتذكر يومياً انتفاضة الأقصى المعمدة بجنائز شهداء فلسطين من محمد الدرة إلى الشيخ أحمد ياسين.
واليوم لن يكون لشباب المستقبل لنساء المستقبل لأطفال المستقبل إلا أن يقبضوا بكل خلية من خلايا الذاكرة على توهج الفلوجة، تلك البلدة التي لم يكن في العالم من يستدل على موقعها على الخارطة لولا تلك الحرائق التي أشعلتها برقاب أبنائها بحقهم في الحرية وفي مقاومة الاحتلال الأمريكي لتسجل اسم العراق بحروف شاهقة في كتاب تاريخ الشعوب لرفض الرضوخ لمنطق وقوة الغزاة. فالفلوجة تمحو اليوم بالدم والتضحيات وصمة الترحيب بالمحتل والاستسلام لشهواته وطلب رضاه التي ظل يثير شبهتها حول أهالي العراق. ليضفي الشرعية لوجوده على أرض العراق بترويج توهمها عبر إعلام لم يكن لينجح طويلاً في فصل التيار عن الصورة مع هذا النوع الاستبسالي من المقاومة. كما أن الفلوجة ترد الروح اليوم ليس للعالم العربي وحده، بل لجميع شعوب المجتمع الدولي في تلك القيمة التي لا تكف قوى السيطرة عن محاولة تعطيلها والتشكيك في جدواها وهي قيمة القدرة على الانتفاض في وجه أعتى آليات القوة التكنولوجية والعسكرية بأبسط أدوات الانتفاضة الإرادة والاستعداد للفداء في طلب الحق. فتأتي مقاومة الفلوجة بتلك الأجساد المجردة إلا من إيمانها بحقها في حياة غير ذليلة لتخلع عن قوة الهيمنة هيبتها العسكرية ولتكشف الفارق الموضوعي بين فتنة الحرية وبين بشاعة الاحتلال.
فهل كان أن تخرج المظاهرات بأمريكا من أقصى الساحل الغربي إلى أقصى الساحل الشرقي من لوس أنجلوس إلى نيويورك لتقول لا للفتنة (No to Vietnamiztion) ارجعوا أبناءنا إلى بيوتهم , لولا أن انتفاضة العراق في الفلوجة والنجف وكربلاء والرمادي فزت لتذكر المواطن الأمريكي بهيئة هانوي ومقاومة أهلها لكل محاولات تركيعها التي جعلت ذلك المواطن وحده من يدفع تلك الأثمان الباهظة لتدخل حكومته في شئون العالم وتقليب مصائره في ذلك التاريخ الذي لا يزال عدد من شهوده أحياء يكتوون بتبكيت الذاكرة كما يقشعرون من كوارث الحاضر المحققة.
هل كان لقوى المعارضة في سيئول أن تقوم بحملة لجمع توقيع عشرة ملايين شخص للاعتراض على إرسال قوة إضافية إلى العراق وللمطالبة بسحب الـ3000 جندي الكوبي الذين زجت بهم حكومتهم لمساندة القوات الأمريكية في احتلال العراق, لولا تلك الرسالة الصريحة التي أرسلتها انتفاضة العراق من الفلوجة إلى العالم وفضحت فيها بصور القتل الوحشي الذي يقترفه الجيش الأمريكي في حق الأطفال والنساء وأعمال الانتقام والإبادة الجماعية الوجه العاري القبيح للاحتلال.
هل كان للمظاهرات أن تندلع أمام السفارات الأمريكية في أسبانيا وألمانيا وإيطاليا واليابان وأمام البرلمانات مطالبةً بإجلاء طواقمها العسكرية عن أرض العراق وبنفض يدها من التحالف غير المقدس مع أمريكا في احتلال العراق لولا أن كشفت انتفاضة أهالي العراق الأخيرة أن البنتاجون مستعد لأن يذبح الحرية من الوريد إلى الوريد فيما هو يرتل اسمها على مذبحها الذي لم يجف دمها عليه بعد, إذا أبدت الضحية أو الحرية أي معارضة لشد قبضته على عنقها أو للي قصبتها الهوائية. فها هم قناصة الجيش الأمريكي يعتلون مآذن مساجد المسلمين ليوزعوا ذخيرتهم الحيَّة بالعدل على أطفال العراق تماماً كالحلوى والهمبرجر والدواء الذي وعدوهم به. وها هم لا يكتفون بطائرات الأباتشي، بل يرسلون مقاتلات ال إف 16 لتجوس في سماء الفلوجة وتحرق اللحم الحر للأسر العراقية وهم أحياء لمجرد أنهم انتفضوا على فوضى الاحتلال وفضحوا كمية السواد في وعوده الوردية بتحريرهم عندما وجدوا أنفسهم في كنف (التحرير الأمريكي) كالمستجير من الرمضاء بالنار ومن الأحلام بالكوابيس أو من المجاعة بالموت الجماعي.
هل كان لأعضاء من مجلس الحكم العراقي أن يستحوا من تحالفهم مع الاحتلال أو يفكر بعضهم في خط للرجعة من تلك القطيعة مع مواطني بلادهم فيجمدون عضويتهم في المجلس أو يستقيلون لولا أن جاءت هذه الانتفاضة بعد مضي حول كامل على سقوط بغداد وإعلان وقف الحرب لتفضح التخبط الأمريكي في تقرير مصير البلاد ولتكشف عن أن الدور المناط بهذا المجلس لا يختلف في جوهره ووظائفه عن ذلك الدور الذي كانت حكومة العدو الإسرائيلي تنيطه بجيش سعد وانطوان لحد على الشريط الحدودي من أرض جنوب لبنان.
هل كان للإدارة الأمريكية أن تسقط في رهانها على شق الصف العراقي بمحاولة استمالة الشيعة في العراق على حساب السنة لولا أن جاءت انتفاضة العراق لتكشف عن تلاحم بين سنة وشيعة العراق كما بين عربه وأكراده في الاتفاق الجمعي رغم تعدد أطيافها السياسية على وضع حد لاستمرار الكارثة الوطنية التي يكرسها استمرار الاحتلال دون نهاية قريبة أو واضحة.
هل لم تكن اثنا عشر شهراً و48 أسبوعاً و366 يوماً كافية لأن تتراجع أمريكا عن إدارتها العسكرية للبلاد لتفسح المجال للقوى الوطنية في العراق وللأمم المتحدة وللجوار العربي بأن تشرع بالمشورة والمشاركة في إعادة الإعمار المدني للمجتمع على أسس دستورية وديموقراطية كما كانت تردد ذلك صبح مساء في خطابها السياسي. أم هل أخطأنا في صياغة السؤال لأن تلك المدة كانت كافية كما تكاد تجمع الصحف الغربية نفسها بما فيها الصحف الأمريكية من يو إس تودي إلى كريستين ساينس مونيتر مروراً بالواشنطن بوسط والنييورك تايمز لأن تكشف عن عدم مصداقية أمريكا في موقفها المعلن عن نية التخلي عن احتلال العراق وإحلال نظام وطني ديموقراطي بديل مثلما كشفت عن (أكذوبة) وجود أسلحة دمار شامل في العراق.
وإذا كان أمر (أكذوبة) وجود أسلحة دمار شامل التي بررت بها إدارة بوش غزو العراق قبل عام تُلطخ اليوم في ظهر جهاز الاستخبارات الأمريكي رغم فضيحة مذكرة أوجست إن صحت أو ما يمكن تسميته (أوجست جيت) على غرار فضيحة الرئيس نيكسون قبل ثلاثين عاماً واترجيت في تزويره لنتائج الانتخابات), فإن المعلومات الاستخبارية سواء كانت صحيحة أو مضللة لا تصنع القرار للرئيس كما يقول بيتر شيوازر. ونضيف خصوصا عندما يكون قرار بحجم الاعتداء بشن الحرب على دولة أخرى ذات سيادة وطنية وشعب عريق. وفي هذا فقد كان على الرئيس الأمريكي كما يرى الكاتب أن يسأل نفسه كما سأله والده قبل دخول القوات العسكرية إلى العراق (ماهي إستراتيجية الخروج من الحرب في حال دخولها). وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد ضربت بالشرعية الدولية عرض الحائط ودخلت الحرب متحدية العالم أجمع بما فيه تلك الأصوات الشريفة من الأمريكيين الذين صرخوا: هذه الحرب ليست باسمنا فإن ليس لها وهي توغل في وحل تلك الحرب ويلغ جيشها في دماء الأبرياء الذين لا تزال تفتك بهم إلا أن تعيد السؤال على نفسها بالقليل من العقلانية أو حتى البراجماتية التي تدعيها قبل أن تتسع دائرة الخراب على المنطقة كلها ولن تكون أمريكا حينها بمنأى عن الحريق الذي شبته.
قد تتردد أمريكا أو تتخبط في طرح السؤال أو في البحث عن إجابة سلمية له، أما بالنسبة لشعب العراق فرغم ومع الخسائر البشرية والبيئية والاقتصادية والحضارية والمدنية الفادحة التي جرتها عليه الحرب وجرها عليه الاحتلال من جراء وجود هذا العدد الجرار من الجيش الأمريكي على أرضهم ومن جراء تلك السياسة الأمريكية الاستعمارية السافرة فإنه قد حسم السؤال بهذه الانتفاضة المباركة بإذن الله من الفلوجة إلى النجف ومن بغداد إلى كركوك، وغداً على كل شبر من أرض العراق فلا حياة مع الاحتلال ولا حرية بدون لحمة وطنية ولا تحرر دون تضحيات. فهل يخالف العراق التوقعات الأمريكية مرتين فيصنع نموذجاً جديداً من الحرية والديموقراطية ولكن على غير خارطة الطريق الأمريكية المتخبطة في جثث الأبرياء من شعبها وشعوب العالم. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|