(نحن نقاتل الأعداء.. الخارجين على الأمن والنظام.. المتحصنين في المدن والشوارع والبيوت.. إن كانوا يريدون القتال حقيقة فليخرجوا إلى ساحات محايدة..)
بهذه الكلمات عبَّر الناطق باسم (قوات الاحتلال) في العراق عن إستراتيجية القتل المتعمد، والقنص الوحشي لأبناء مدينة الفلوجة.. ومن قراءة متأنية لهذه المقولة نخلص إلى عدد من الحقائق:
1 - دأبت قيادات الاحتلال في العراق على ترويج مصطلحات صاحبت بدايات ظهور المقاومة العراقية، ضمنتها خطابها الإعلامي العسكري.. فهم يصفون المدافعين عن الأرض والعرض ب(الأعداء)، والمقاومين لظلم جنود الاحتلال بأنهم (خارجون على الأمن والنظام).
إن هذه المصطلحات - وغيرها كثير - التي يروِّج لها الخطاب العسكري الأمريكي جزء من منظومة التلاعب بالعقول، وقلب المفاهيم بهدف ترسيخها لدى الرأي العام، وهي مندرجة في الأكذوبة الكبرى التي جاءت من أجلها الولايات المتحدة وحلفاؤها بهدف إرساء الديمقراطية، وإشاعة الحرية والأمن والعدل في (المجتمعات العربية المتخلفة)؟!
لقد كانت مثل هذه المفردات مستهجنة في البدء، وتخرج من أفواه الناطقين باسم قوات الاحتلال بحذر، وتنطق بتوجس حتى ابتلعتها وسائل الإعلام فأصبحت ترددها بكرةً وعشياً. وإن من العجب أن يوصف من يقاوم بطش المستعمر ويتصدى لغرور الظالم، ويواجه صلف المحتل بأنه (عدو)!!
2 - دعا الخطاب التتري المقاومة إلى الخروج من الفلوجة لتكون المواجهة في ساحة محايدة لا تتدرع بالمدن أو تتحصن بالمنازل على الرغم من الفارق المهول في العدة والعتاد!!
أليس في هذا دلالة على الرعب الذي قذفته المقاومة الشجاعة في قلوبهم؟ إنها مشاعر الرهبة من التحدي والخوف من المواجهة، إذ هم أشد الناس حرصاً على حياة، فلا هم يقاتلون لمبدأ ومعتقد، ولا هم ينتظرون مكاسب قريبة المنال.
3 - وصفت الولايات المتحدة وقياداتها العسكرية في العراق أيام المقاومة في الفلوجة بأنها (أيام صعبة وعسيرة) فما هو الحال لو كان في العراق أكثر من فلوجة؟ يقاومون جنوداً غُراً لا يعلمون من أين أتوا وفي أي طريق هم سائرون؟
4 - قتل في العراق من الجنود الأمريكيين أضعاف ما قتل منهم في الفلوجة، لكن الخطاب العسكري لم يظهر حجم الخسائر البشرية بين صفوف قوات الاحتلال، وعندما استخدمت المقاومة وسائل الإعلام لتكشف هذه الحقيقة أمام الرأي العام الأمريكي صعَّد المستعمر وتيرة القتال، فقتل ما يزيد على 600 من الرجال والنساء والصبيان، بدعوى الانتقام لمقتل أربعة من جنوده والتمثيل بهم، ونشط القناصة من فوق المآذن وأسطح المنازل في قتل المدنيين المسالمين من أهالي الفلوجة، وصورت شاشات التلفزة مشاهد طائرات إف 15، ومروحيات الأباتشي وهي تحلِّق على ارتفاع منخفض، وتشارك في عمليات القتل لأهالي الفلوجة بدعوى ضبط الأمن والإرغام على الطاعة للمستعمر. فكيف تخرج المقاومة إلى (ساحة محايدة للمواجهة)؟!
5 - أثبتت المقاومة العصية في الفلوجة أن المستعمر واهن الحجة، ضعيف في المواجهة، يتولَّى بسرعة لحظة الزحف وصدق اللقاء، ولكن أكثر الناس لا يعقلون!!
هذه حقائق جسَّدها الخطاب العسكري لقوات الاحتلال، وهي مؤشرات على إستراتيجية إعلامية تهدف إلى إعادة قولبة المفاهيم وصياغة المصطلحات، لكنها في الوقت نفسه دلالة برهان ويقين على تهافت البناء المعنوي، وخوار المواجهة على أرض الواقع ومسرح الحدث.
* أستاذ الإعلام السياسي المشارك بجامعة الإمام |