ظل لفلسفة (هجل) بريقها وحضورها إلى أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر الميلادي حتى بعد رحيله وعلى الرغم من انشقاق تلاميذه إلى اليسار واليمين بعد خمس سنوات من هذا الرحيل....
حاول (اليمين) التمسك (بمنظومة هيجل الفلسفية المتكاملة والشاملة لجميع مظاهر الحقيقة في العقل والتاريخ والتي تؤمن بوحدة محتوى الدين والفلسفة.. بينما (اليسار) لم يستطع تكييف فلسفة هيجل مع واقع لم يعد مقبولاً، لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا فكرياً.. نتيجة توالي العديد من الثورات الصاخبة في الكثير من عواصم أوروبا، مثل فيينا، وباريس، ولندن، وبروكسل وغيرها.
ولذلك طالب (اليسار) بتغيير الواقع تغييراً جزرياً.. وتبلور ذلك في موقف (كارل ماركس) وقوله الشهير (وجدت هيجل واقفاً على رأسه.. فأوقفته على قدميه).. ولم يحتفظ ماركس من فلسفة هيجل بأكثر من المنهج الجدلي والنزعة الديناميكية الصادرة عنه، والتي تنتقل بموجبها المجتمعات من (المشاعية إلى الشيوعية، (مروراً بالعبودية والإقطاع والرأسمالية)، ثم الاشتراكية.
وتوالى النقد على فلسفات هيجل ومن أشهر ذلك نقد الوجودي الكبير (كير كجارد) واتهامه فلسفة هيجل بأنها تجرد الإنسان من وجوده الحقيقي وتجعل منه (هيكلاً عظمياً) نتيجة الفكر التجريدي الذي اتبعه هيجل، والذي أبعد الإنسان عن واقعه الحقيقي بإلغاء تاريخه وماديته وصيرورته.
ثم ظهر (فريدرك نيتشة) الذي لقَّب نفسه (بالعاصفة الهوجاء التي أطاحت بكل ما قيل حول الإنسان) محدثاً أكبر قطيعة مع كافة الاتجاهات الفكرية والفلسفية السابقة.. سواء كان في الشكل أو المضمون أو اللغة.. متهماً سقراط بأنه وراء الكارثة التي حلَّت بالحضارة الإنسانية، لاحتكامه إلى العقل وحده، كما اتهم ظهور التراجيديا الموسيقية، بأنها وراء فقدان الإنسان سيادته على ذاته برضوخه واستسلامه لقيم وأخلاق وعقائد كبلته وأفقدته حريته، وعبَّر عن عدائه اللدود للمسيحية على الرغم من أنه ابن قس بروتستانتي، ولكن هذا العداء لم يكن لكونه يرى مثل (دافيد فريدريك شتراوس) في كتابه (حياة يسوع) بأن المسيحية عبارة عن مجموعة أساطير الشعب اليهودي، بل عبَّر نيتشة عن ذلك العداء في كتابه (العلم المرح) بقوله إن المسيحية أذلت الإنسان بعد ما أقامت عقائدها على بقايا تصورات بالية ومتناقضة حول العالم, وختم نيتشة هجومه على المسيحية بالقول (إن المسيحيين مراؤون، لا يعيشون بموجب ما يعتدون بأنهم مؤمنون به)، ومن أشهر كتب نيتشة (المسيح الدجال) و(جينيالوجيا الأخلاق) و(ما وراء الخير والشر) و(إرادة القوة) الذي يعد أضخم كتب نيتشة وأهم كتاب ختم به حياته، وتكمن أهمية كتابه (إرادة القوة) في كونه يتضمن جوهر الفلسفة النيتشية بكاملها، لتحطيم نيتشة للميتافيزيقا وإحلال (إرادة القوة) في مركز الفلسفة، وما تضمنه من تعريف ل(القيمة) على أنها شرط الارتقاء بحياة كائن في صيرورة.. والحياة ليست ما يجب الحفاظ عليه، بل ما يجب الارتقاء به؛ لأن الحفاظ دون الارتقاء بعد تقهقهر، ولا يمكن الارتقاء إلا بالانطلاق مما تم الحفاظ عليه.. وهذا معنى الصيرورة التي تمثِّل (إرادة القوة).ومراحل تطور وارتقاء الروح لدى نيتشة تتمثَّل في ثلاث صور: الأولى صورة الجمل وهو صبور ويحمل أثقال الأخلاق القديمة، والذي يتحول في الصورة الثانية إلى (أسد) يصارع تنين القيم.. وفي الصورة الثالثة تتحول الروح إلى طفل يلعب لعبة الأخلاق، فالجمل يرمز إلى الانحطاط كما أراد نيتشة والأسد إلى الروح الحرة مصارعة القيم القديمة، والطفل يمثِّل الإنسان، واضع وصانع القيم واصفاً الحضارة الغربية بالعدمية التي تنفي القيم والمعاني المتوارثة وكل ما يرغب فيه الإنسان، فحينما يحل مكان ذلك (القيم العليا) تلغي كل قيمة سابقة وتهدم أبنية الكذب التي شيَّدتها الفلسفة السقراطية، والديانة المسيحية على حد قول نيتشة.. ويتهم الحضارة اليونانية والمسيحية بأنهما تحملان بذور العدم في شتى مظاهرها وأزماتها.. منادياً ببناء عصر جديد تصنعه (إرادة القوة) يتحقق بفعل إنسان جديد هو الإنسان (الأعلى) وبديناميكية دائمة هي (العود الدائم).تميَّزت أقوال نيتشة بالصرامة وبالجرأة المفرطة التي تتحرر من جميع القيود ولا تقف عند حدود..، لها وقع المطرقة على سامعها وقارئها... مما جعل البعض يفسر ذلك النتاج الفكري على أنه نتاج إنسان شاذ استفحل فيه المرض، بينما قال عنه البعض الآخر بأنها العبقرية الفذة التي لم ير التاريخ مثيلاً لها من قبل.. كما يعتبره النقاد والفلاسفة فيلسوف القرن التاسع عشر الميلادي بلا منازع احتل المكانة التي كانت لهيجل، وكارل ماركس، آخر ميتا فيزيقي في الغرب.. هادم الفلسفة وفاتح أبوابها في القرن العشرين...ولو تمعنا في حقيقة تلك الشهرة الكبيرة التي غمرت نيتشة لأدركنا أن وراءها أكبر علماء النفس التحليلي الثلاثة (سيجموند فرويد) مؤسس علم النفس التحليلي وأشهر تلميذيه اللذين انشقا عنه (ألفرد إدلر) و(كارل يونج)، فالرسالة التي أرسل بها فرويد لأحد أصدقائه المؤرخة بتاريخ 1900م والتي كتب فيها إنني منشغل بقراءاتي لنيتشة، وظهور تطابق كبير بين علم فرويد وفلسفة نيتشة في أمور تعد أساسية في علم النفس مثل (الانفعال، والغرائز، والكبت).. إلى جانب ما أعلنه تلميذ فرويد السابق الذكر (ألفرد إدلر)، (مؤسس علم النفس الفردي) بأنه أكثر قرباً وتأثراً بفكر نيتشة وخاصة فيما يتعلَّق (بتحليل الشعور بالنقص)، فإعطاء إدلر أهمية بالغة (للشعور) في علم النفس كان إحدى أهم نقاط الاختلاف مع أستاذه فرويد.. وتبنى إدلر الكثير من أفكار نيتشة وخاصة فيما يتعلق ب(إرادة القوة، والطاقة الغريزية، والدافع الغريزي، والميل إلى الانحراف) أياً كان مصدرها جميعا كما ساهم (كارل يونج) في مزيد من الشهرة لنيتشة عندما كتب قبل وفاته بفترة وجيزة إلى رجال الدين الأمريكيين يقول (إن تقديم تقرير مفصل عن تأثير أفكار نيتشة في تطوري العقلي لمهمة تتخطى حدود قدرتي، فلقد شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرني بعمق بما يمكن أن يحققه علم النفس، فنيتشة هو الإنسان الوحيد الذي قدَّم لي في ذلك العصر إجابات كافية عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التي كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها.. كما كتب يونج في كتابه الشهير (سيكولوجية اللا وعي) بأنه بدأ حياته طبيباً نفسياً وعقلياً، لكن نيتشة هو من أعده لعلم النفس الحديث.ازداد هذيان نيتشة واستفحل فيه المرض.. واستسلم للجنون في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته وانزوى بجانب أخته في (فايمار)...ويبقى سؤال مطروح:هل كان نيتشة يهذي منذ البداية؟ أم عبقرية نيتشة أوصلته للجنون؟.
أتحفظ على رأيي الشخصي......
(*) عضو عامل هيئة الصحفيين السعوديين
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص ب 4584 جدة 21421 فاكس جد 026066701
|