استغرق الملتقى الدولي الرابع للأدب الإسلامي في مدينة فاس المغربية ثلاثة أيام بجدول مزدحم صباح مساء. وكان هذا الجدول يتعارض مع رغبة الزائر الذي يأتي إلى بلاد لأول مرة. وكان لابد من الهروب من بعض الجلسات بعد أن أقنعت نفسي أنني أستطيع تعويضها بالعودة إلى النص الأصلي, ولكنني لا أستطيع تعويض هذه الطبيعة الساحرة والتاريخ الناطق والثقافة الحية التي أريد التعرف عليها.
كانت جلسات الملتقى في قاعة المحاضرات الكبرى بكلية الآداب جامعة سيدي محمد بن عبدالله، كان المبنى عبارة عن ثلاثة أضلع مفتوحة، شرفات المباني على ساحة كبيرة يموج فيها الطلبة والطالبات تنتهي في الضلع الرابع - المنفصل - بمكان قاعة المحاضرات. قيل لنا إن مباني هذه الكلية عرفت عدداً من جهابذة رجال الفكر والثقافة والجهاد في المغرب العربي، وإنها أحد منطلقات علال الفاسي حيث كان يقف على شرفة أحد أضلاع هذه المباني مطلاً على مئات الطلاب فأدركت سر اختيار هذا الشكل الهندسي لهذه الكلية. وتقع الكلية على ربوة تطل على مرتفعات ومنخفضات خضراء تمتد إلى مرمى البصر حتى تلتفي بلون السماء. اعتدت ان اختلس بعض الوقت لاجلس هناك وحيداً استمع لصمت الطبيعة الناطق وأتأمل في لوحتها الخضراء.ووجدت نفسي أعود إلى شاعرية فقدتها في زحام الحياة وجفافها ومشاغلها.
وكان من حسن حظي أن حصل توافق بيني وبين أحد رجال اللجنة المنظمة للملتقى، وهو شاعر مثقف وأستاذ جامعي من أهل مدينة فاس.. إنه الدكتور الحسن المحب وقد كشفت لي صحبته أنه اسم على مسمى، فهو حسن الخلق محب للناس ودود، ولا يملك من يعرفه إلا أن يحبه. ودخلت معه في حوار طويل عن المغرب العربي وخصوصية ظروفه جميعاً. وكان قد لفت نظري إلى هذا عندما رآني أعقد المقارنة بين المغرب وبعض دول المشرق الشبيهة الظروف. ووجدت أن هناك مشكلات مشتركة مع دول المشرق لكن المغرب العربي كله يتميز بمشكلات أخرى، فمعظم هجرة العمالة المغربية إلى أوروبا وليس إلى الدول العربية المشرقية، وقد أدت هذه إلى مشكلات في الثقافة واللغة والدين. ولفت نظري كتاب عن المرأة المغربية المسلمة العاملة في أوروبا، وهالني ما قرأت. وانعكست هذه المعاناة على وسائل الإعلام وما يكتب هناك من قصص وروايات، وتضاعفت معاناة المغربي المسلم في أوروبا وخاصة فرنسا بعد الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم وإصرار أمريكا على إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين.
ورغم الحضور الظاهر للثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية إلا أن هناك إصرارا على اللغة العربية وتمسكا بالدين، وقد أدى حرصهم على التعريب إلى تكوين معجم لغوي خاص بهم تبدو كلماته غريبة علينا نحن أهل المشرق ولكن لما رجعت للأصول اللغوية وجدت أن الكثير من تراكيبهم اللغوية أكثر ارتباطاً بالمعنى المقصود من التراكيب التي نستخدمها في المشرق.والمغربي متدين بفطرته حتى اولئك الذين يلبسون مسوح الثقافة الغربية، ويلوون ألسنتهم بالفرنسية ، ليسوا على استعداد للتخلص من هويتهم العربية أوعقيدتهم الإسلامية، وهم أحرص على عروبتهم ودينهم من بعض متفرنجي المشرق وعلمانييه. وتفسيري لذلك أن المغاربة يقعون في زاوية خطرة حيث تهب عليهم الرياح الأمريكية القادمة عبر المحيط من جهة، والرياح الأوروبية القادمة عبر البحر المتوسط والمضيق من جهة أخرى، وهم أحرص من أهل المشرق على هويتهم من أن تضيع، وشخصيتهم من أن تذوب، لا لشيء وإنما لأنهم أقرب من أهل المشرق لمواقع الخطر، وأكثر منهم شعوراً به، وهم لا ينسون أن الاستعمار الذي ابتلي به المغرب كان أشرس من الاستعمار الذي ابتلي به المشرق.. كان الاستعمار الفرنسي لا يحتل الأرض فقط وإنما يعمل على طمس الهوية الوطنية ومحاربة الانتماء العرقي والعقدي وإلحاق الشعوب التي يستعمرها ثقافيا به، وهو الاستعمار الثقافي الذي يجاهد المغرب إلى اليوم للتخلص من بقاياه بالإصرار على إظهار عروبته وبمزيد من الالتفاف حول عقيدته.(وللحديث بقية)
|